عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Aug-2020

(خطيئة الظل) لأماني المبارك.. وجع الحقيقة

 د. علاء محمد شدوح (أكاديمي وناقد أردني)

 
الراي - إنّ قراءة النص الأدبي بمثابة كتابةٍ ثانيةٍ له، وهي ولادةُ نصٍّ من نصٍّ آخر، وهذا مرهونٌ بتوليفة العناصر الفنية والجمالية التي يُبنى عليها النص. ومن هذا الأساس ينطلق هذا المقال في تناول المجموعة النثرية «خطيئة الظل» لأماني المبارك (دار المعتز للنشر، 2020.(
يحوي غلافُ المجموعة صورةً تتناسبُ مع نصوصها، وتشيرُ تفاصيلُ هذه الصورة إلى قضايا كثيرة تخصّ المرأة وعلاقتها مع نفسها أو مع رَجُلِها أو مع المجتمع المحيط بها. إذْ تتوسّطها امرأةٌ حائرةٌ منكسرة تقف أمام بابٍ ذي مصراعيْن شبه مغلقيْن، وتدلّ هذه التفاصيل المرئيّة على أنّ المرأةَ نادمةٌ بسبب خطيئةٍ اقترفتها، وتشيرُ إيماءةُ رأسِها إلى الأسفل ووقفتُها الحائرة ولباسُها البسيط وتسريحةُ شعرها المتواضعة، إلى خطيئتها التي تتمنّى تجاوزها من خلال النور الذي يخرج بخجل من أوسط مصراعي الباب ومن خلال النور الساطع الساقط من الأعلى تجاهها، حيث تقف متردّدةً أمام الباب وتعيش لحظات صراعٍ مع نفسها إمّا الخروج من العتمة إلى النور وإمّا البقاء في عتمة الخطيئة التي فَعَلتْها، أو لربّما أنها لم تفعلْها بل وقعتْ عليها كلعنةٍ لا فِكاكَ منها. وفي الصورة يحيط بالمرأة ظلامٌ مُعتَكِر، وهو ظلامٌ يرمزُ إلى القيود التي تكبّلها، وإلى الآلام والأوجاع النفسية والمعنوية التي تعاني منها.
أمّا العنوان (خطيئة الظل) فقد حَمَلَ في رَحِمِهِ البذور الجنينيّة لدلالات النصوص، وجعلتْ المبارك منه مسْحاً قبْليّاً لمقصديّتها، فجاء العنوان مناسباً للغلاف من جهة ولعناوين النصوص ومضامينها من جهة أخرى. ومن المعروف بَدَهيّاً أنّ الظلّ هو المقابل النظري للغموض والسوداوية في الأعمال الإبداعية، وهو -أيضاً- فلسفة كونية، إذ لا يستطيع البشرُ العيشَ إلّا في الظلّ؛ ظلّ شخص أو ظلّ فكرة أو ظلّ حائط أو ظلّ شجرة، بالتالي إنّ في الظلّ حياة، وهذه الحياة تَقْبَعُ خلف حروف عنوان المجموعة لِتُعلِنَ عن نفسها من خلال الضوء الذي كان سبباً في تشكيل الظلّ، فكما قال «غوته": «حيث يوجد الكثير من الضوء يكون الظلّ عميقاً». فالكاتبة نجحت في اختيار هذا العنوان على الرغم من أنّه عنوان فرعي لنص من نصوص المجموعة، وسرّ النجاح هو أنّ الظلّ يُعبّر عن الشخصيّة الافتراضية التي سيطرتْ على النصوص، والتي قد تكون المرأة أو الرجل أو الاثنان معاً أو حتى الذات الكاتبة، وهذه الشخصيات الافتراضية التي يرمز إليها الظل والتي عاشتْ معاناتٍ وجدانيةً كثيرةً، تتداخل مع فكرة الوجود والعدم، ومع فكرة التجلّي والعماء، ومع فكرة الموت والخلود، وكأنّها ألعاب وجدانيّة تريد الكاتبة أنْ تلعبَها مع القارئ ليقومَ هو بدوره باكتشاف ما وراء الظلّ، وهو –بالتأكيد- (الخطيئة)، وهي ذنبٌ عظيمٌ مُتَعَمَّد اقترفته الشخصيات الافتراضية في نصوص المجموعة، فالنصوص ملأى بلفظ (خطيئة) أو (خطايا) والتي حاولت الذات الكاتبة تبريرها في أحايين كثيرة، إلا أن هذه المبررات لم تطفئ جذوة الخطيئة، حيث قال «توليستوي»: «ارتكاب الخطايا عملٌ إنسانيّ، ولكنّ تبريرها عملٌ شيطانيّ».
إنّ القارئ لهذه النصوص الوجدانية يجد أنّ أكثرها يتحدث عن المرأة ككيان مستقل أو عن علاقتها العاطفية مع الرّجل أو مع مجتمعها الذي تعيش فيه، ومن هنا رأيتُ أن أسلِّطَ الضوء على بعض صور المرأة التي جاءت في النصوص ومنها:
• امرأة الحُبّ: كثيرةٌ هي النصوص التي رسمتْ المرأة العاشقة والرومانسية والمُحبّة لِصِنوها الآخر -الرَّجل-، وهذه هي الصورة الطبيعية والمعهودة عن المرأة في النصوص الأدبية التي يُبدعها الرّجال، لكنّ الكاتبة أماني كانت قد أتاحتْ لنفسها الفرصة للتعبير عن وجهة نظرها كأنثى وكظلّ للأنثى، مما أدّى إلى محاولة الخروج على المألوف والتمرّد على القيود التي تُكَبّل المرأة في المجتمعات العربية وكَسْرها، لكنّه كان خروجاً مُؤدّباً يدور في فلك ما تقبله الأعراف والأخلاق. فمثلاً يتحدث نص (جنوحٌ غضّ) عن حالة الحب التي عاشتها المرأة، وكيف هبّتْ عليها نسائم الجنوب المفعمة بالعشق والتي زيّنتْ حجرات قلبها الأربعة بقناديل الغرام والهيام (ص17.(
وفي نص (امرأة الحزن) تشاطر الكاتبةُ الأنثى طوافَها حول القلب والحبّ، وتتوسّل بيد الظلّ ليحنو عليها وليربت على نبضها وليخلّصها من قيودها الموجعة والمؤلمة (ص20.( وفي نص (لعنة) تتحدث الكاتبة عن تأثير المرأة في قلب الرجل وأنه لا ظلّ يحتويه سواها، وأنّها هي اللعنة التي توجهها للرجل بسحرها الذي يأسره (ص27.(
إنّ النصوص التي تحدّثتْ عن المرأة العاشقة كثيرة، وقد رسمت الكاتبة فيها صورة محتشمة للمرأة العربية والرومانسية التي تطالب بخجل ببعض الحريّة حتى ولو من خلال الأحلام والأمنيات المشتهاة، وهذا الخجل يتمثّل باللجوء إلى الظل –الشخصيات الافتراضية- للتنفيس عن هذه الأمنيات، على اعتبار أنّ الحبّ عاطفة إنسانية سامية.
• امرأة الكبرياء: بعض النصوص في المجموعة تتحدث عن المرأة ذات الأنفة والكبرياء التي لا تقبل الانكسار ولا تقبل أن تكون تحت وطأة وسلطوية الرجل، فتحاول دائماً أنْ تكون المرأة القوية التي لا تنكسر حتى ولو كانت بحاجة ماسّة إلى الرجل. فالكبرياء هو الذي يجعل المرأة ثابتة غير مهزوزة ولا مهزومة أمام مجتمعها-مع أنّ كل شيء بداخلها يرتجف- كما أنّه سرّ الحبّ والطريق إلى القلب، وهذا كلّه ما كان واضحاً في نصوص المجموعة. فمثلاً يتحدث نص (أنا الهوى) عن جبروت المرأة وتحكّمها في خيوط حكاية الحبّ بينها وبين الرجل، وتحاول أنْ تمارس لعبة النسيان عليه، ونلاحظ –أيضاً- كيف نعتتْ نفسَها بالهوى وأنّها هي التي تُحييه وتميته، وأنّ بيدها كلّ شيء لتجبره على أنْ يعود إليها طوعاً لا كُرهاً، وهي في الوقت نفسه راغبة في هذه العودة (ص37.(
وفي نص (مستبدّة) تعترف الأنثى أنها امرأة الاستبداد دون منازع، وأنّها لن تضعف مهما أغراها الرّجل بنشوة الرّجوع (ص46 .(وفي نص (أسوار العتاب) تمطِرُ المرأةُ المغرورة بكبريائها الرّجلَ بوابلٍ من الأسئلة لتثبتَ له أنّها غير آبهةٍ به أو بقربه منها، وأنها لا تهتمّ بندمه على فقده إيّاها (ص48 .(لكننا نجد أنّ هذا الكبرياء ينتهي بالعودة إلى الرجل، وأنّه كبرياء فاشل لا يعدو أنْ يكون إلا محضَ لحظةٍ من القوّة خارتْ أمام العاشق.
• المرأة والطبيعة: تساعدُ الكاتبةُ الأنثى على الهروب نحو الطبيعة، لِتبحثَ عن ملامحها فيها، إذ يوجد رابطٌ وثيقٌ جدّاً بين المرأة والطبيعة كما عهدنا ذلك عند الشعراء الأندلسيين، ونلاحظ دائماً أنّ الناسَ كانوا يضيفون إلى المرأةِ صفاتٍ من الطبيعة كالشمس والقمر والربيع، وكانوا –وما زالوا- يسمّون المرأة بأسماء من الطبيعة مثل:
خضرا وشمّا وسما وشمسيّة وزهرة ونور ووردة...إلخ. وتُكثرُ المبارك في نص (جنون) وغيره من ملامح الطبيعة لتكون بمثابة الملجأ للتخفيف من الآلام والأوجاع النفسيّة، فالمبدع أسير عقله الباطن، وتخرج منه الألفاظ دون وعي، فالكاتبة لا تتناول الجمالَ المرئي أو المُشاهَد فحسْب، بل تركّز أيضاً على الجمال المتحرّك والمسموع، ليأخذنا إلى جمالية أخرى؛ وهي صوت الطبيعة التي تنمو مُتألقةً بزينتها وخضرتها (الجبال المترامية، الأشجار، التراب، الزهور، الأحجار، الهواء، صوت العصافير، خرير الماء، كِسر الفخّار، السماء، سنابل القمح، تلّة عذراء، الصوّان) (ص61-63.(
• المرأة والخيانة: في بعض النصوص تعاني الأنثى من وجع الخيانة –خيانة الرجل- وتحاول الكاتبة أنْ تنتصرَ للمرأة لإنصافها من هذا الألم ومن هذه العلاقات العاطفية الفاشلة ومن هذا التخبّط الأنثوي القاسي، ففي نص (عاصفة) صوّرتْ الكثير من النساء وقد أصابتْ كلَّ واحدة منهن رصاصة الخيانة بدمٍ بارد، وبيّنتْ أنّ المرأة لا مانع لها من أنْ تهربَ إلى رجلٍ يأويها شريطة أنْ يكون وفيّاً ولا خيانة في قاموسه، وفي هذا النصّ –أيضاً- يظهر تمرد الأنثى على الحارس الذي يمنعها من أي شيء، وهذا الحارس يحملُ بعداً اجتماعيّاً وأخلاقيّاً ودينيّاً، لتعترف الأنثى بعد ذلك أنّ هذا التمرّد هو خطيئة مشروعة (ص57-58.(
• المرأة المتمرّدة: اختزلتْ الكاتبة تمرّد الأنثى بأمنية، وهي أمنيتها بالتمرّد على المجتمع بما فيه من قيود وعادات وتقاليد وأفكار، وهذا جليّ في نص (أمنية) وهو أقصر نص في المجموعة إلّا أنّ الأنفاسَ فيه طويلة والأمنيات فيه تُعانق عنان السّماء. «وحيدة.. ليتني أمتلك جناحيْن، أغادرني لحظة قرار.. مع الطيور المهاجرة.. هناك.. أحلق بروحي مرّة واحدة.. فوق أفق السلام» (ص87.( لقد وظّفتْ الكاتبة تقنية الحُلم –حلم اليقظة- في نص (صلصال) (ص80-81 (حيث بدأت قصة هذا الحلم عندما سَرَدتْ لنا الأنثى بمخيلتها ما كان يدور بمخيلة رَجُلِها، وكيف أراد أنْ يعجِنَ طينتها بيديه ليشكّلها بكلّ عنف، وكيف كان يتصبّب عرقاً أملاً في تغيير ملامحها، وكيف غفا وهو يلفّ يديه على عنقها. ونلاحظ من خلال النص أنهما –الرجل والمرأة- استفاقا معاً من هذا الحلم المُتَخَيَّل المزدوج، حيث استفاقتْ مما كانتْ تتخيّله، وفي الوقت نفسه ساعدته على الاستيقاظ من حلمه الذي تخيّلتْه هي، ليجدَ نفسَه يُترجمُ ما يريده بقطْع رأسِ لعبة ابنته الصغيرة. ولأحلام اليقظة والتهويمات دلالات عميقة في علم النفس، فهي حالات من اللاوعي لها علاقة بالهروب إلى الماضي لأسباب نفسية، والأمر هنا يتعلّق –بلا شكّ- بسلطوية الرّجل وميْله أحياناً إلى الانتقام.
ولتقنية الاستدعاء أو الاسترجاع حضورٌ بهيّ في المجموعة وظّفتْها الكاتبة بمهارة أضْفتْ على الأحداث ما يُسمّى المفارقة الزمنيّة والذي زادها تشويقاً، ففي نصّ (أدراج الذاكرة) حاولتْ الأنثى أنْ تنبشَ ما في أدراج الذاكرة وتستدعيه من خلال وابلٍ من الأسئلة أمطرتْها على رَجُلِها (ص47 .(وفي نص (حنين) لحظةُ شرودٍ مجنونة عاشتْها الأنثى، أيقظتْ جذوة الحنين إلى الماضي، حيث تتصافح القلوب المنهكة في محطة الذكرى (ص94 .(والشرود في علم النفس له علاقة بالكَبْت؛ فالمكبوتون دائماً يستحضرون المَشاهدَ المُتَخَيَّلة ومن أهم الدلالات اللغوية في نصوص المجموعة (التكرار)، إذْ نلاحظ أنّ الكاتبة قد كرّرتْ لِيختزلوا الأزمنة ولِيطووا المسافات.
في نصوصها كثيراً من الألفاظ والتراكيب، وهذا التكرار في مجمله قد خدمَ مغزى الكاتبة وأفكارها، فمثلاً تكرر مصطلح الظلّ ومشتقاته ثلاث عشرة مرّة وهذا يتناسب مع مضامين النصوص وعناوينها، لا سيّما أنّ الظل كان معادلاً موضوعيّاً مهمّاً للذات الكاتبة خاصّة وللأنثى الشرقيّة عامّة، واختارته الكاتبة للتعبير عن عواطفها وأفكارها ولاستثارة عواطف القرّاء، فلو لمْ تلجأ إلى هذا لحمّلتْ نفسَها ما لا طاقة لها به، وهذا ما أشار إليه (ت.إس.إليوت) عندما قال عن مسرحية هاملت لشكسبير «أنّ فيها شيئاً من الفشل الفنّي سببه أنّ عواطف هاملت لم تكنْ مدعومة بمعادل موضوعي ملائم يخدمها». وقد تكرّر اللون الأزرق كثيراً بأكثر من صيغة، ولا أعتقد أن هذا التكرار جاء خبط عشواء أو بمحض الصدفة، بل كان ذكيّاً لِما للألوان –عموماً- من أبعاد مجازيّة ورمزيّة في الأدب، ولِما للّون الأزرق  بدرجاته كافة- من دلالات واسعة ومختلفة: كالنفور والحقد والكراهية والانتقام، والخصب والنّماء والحب والهدوء، وإذا أسقطنا دلالات هذا اللون جميعها على نصوص المجموعة لوجدناها تمثّل حديث الكاتبة عن المرأة التي تواجه المشكلات والقيود التي تحيط بها من كلّ اتجاه، وعن المرأة الرقيقة الحالمة الرومانسية التي لا تستطيع التخلّي عن نصفها الآخر.
وتكررتْ كلمة (المرآة) في أكثر من نصّ، وكلّنا يعرف الارتباط الوثيق بين المرأة والمرآة، وهذا الارتباط له دلالاته النفسيّة والاجتماعية والفكريّة، ففي النصوص تتحدّث الأنثى عن ذاتها وطموحاتها وأمنياتها من خلال المرآة، ومن خلالها أيضاً تريد العبور إلى عوالم أخرى لتخلّصَها مما هي فيه، وإطالة الأنثى النّظرَ فيها يدلّ على التعلّق الزائد بالذّات والقلق المستمرّ من كل ما هو مؤذٍ. وقد مارستْ الكاتبة مع القارئ لعبة الاختباء في تكرارها لألفاظ: (أماني، أمانيَّ، أمانٍ، أمنيات)، وهي تعود إلى الذّات الكاتبة–واسمها أماني-، فأرادتْ إقحام هذا الاسم بدلالاته تلميحاً إلى ما تريد وليسَ تصريحاً، خوفاً من القيود المجتمعيّة التي تكبّلها.