الغد
(1) لا ناجين فلسطينيين من الاستهداف بالإبادة.
لدى الحديث عما يحدث في فلسطين، قد يصحّ اتهام أي أحد بأنه يتحدث من منطقة الراحة، «جالسًا في مكتب مكيف أو على أريكة وثيرة»، كما يذهب القول– إلا الفلسطيني المنفيّ. لا راحة ولا أمان لأي فلسطيني في أي زاوية على هذا الكوكب. مهما تكُن حالته أو موقعه الجغرافي: في الضفة؛ في داخل «الخط الأخضر»؛ في غزة، أو في المنفى، من أي عُمر أو جيل، يُفرض على الفلسطيني في كل لحظة من حياته صراع وجودي– صراع حياة أو موت.
أن تعيش بلا دولة يعني أن تعيش في فراغ قانوني وسياسي يكرّس تهميشك، ويحرمك من امتلاك الحقوق المعلَّقة على شرط المواطنة. وحتى لو تمتع المنفيّ قسرًا بوضع قانوني يسجله في العالم بطريقة ما، فإنه لن يتعافى من الضرر البليغ الذي يعنيه انقطاعه عن الجذور، ومعرفته بأنه حُرم تعسفيًا من هويته التاريخية وأن ثمة محاولات لا تهدأ لإلغائه تمامًا -كشعب.
ليس المنفى مجرد حالة جغرافية، وإنما تجربة نفسية وسياسية يجد الفلسطيني نفسه منغمسًا فيها أينما وُجد، سواء في مخيمات اللجوء أو في مدن الغرب المترفة، عرَضُها شعور دائم ومرير بالاقتلاع، حيث فلسطين هي الوطن الحاضر الغائب، والذاكرة العميقة التي تُؤرّق المنفيّ– وتحفزه- في آنٍ معًا.
ليست حالة اللا-دولة والمنفى التي يختبرها الفلسطيني نتاجات عرَضية للمشروع الصهيوني. إنهما أدوات هذا المشروع الأساسية لإقصاء الفلسطينيين من الوطن والوجود التاريخي معًا. كانت إبادة الشعب الفلسطيني، فيزيائيًا وتاريخيًا، عملية مدروسة متأصلة في بنية المشروع الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني– مثل كل مشروع استعماري استيطاني. ولا تقتصر الإبادة على الإقصاء الجسدي فحسب، بل تمتد إلى إبادة التاريخ والذاكرة والهوية. ما دام هناك فلسطينيون، أينما كانوا، يقاومون هذه الإبادة الثقافية والتاريخية، بالإصرار على بقاء هويتهم الوطنية، بالنضال السياسي، بإدامة السيرورة الثقافية، وبالتأكيد على حق العودة الذي هو جوهر القضية الفلسطينية، فإن المشروع الاستعماري/ الاستيطاني لن يكون ناجزًا ولن يطمئن.
اللادولة هي الأداة الأشدّ خبثًا للإقصاء. إنها تحوّل الفلسطينيين إلى كائنات عالقة في حالة دائمة من اللامكان واللازمان واللاهوية. وهي ليست مجرد تصنيف قانوني، بل حالة من التهميش، والضعف، والإلغاء المتواصل. إنها تضمن أن يتعايش الفلسطيني مع حالة مقيمة من اللايقين السياسي والوجودي والتجريد من الحقوق. وقد عبرت هانا أرندت عن العلاقة بين الدولة والحقوق في عبارة موجزة: «أن تكون بلا دولة هو فقدانك الحق في أن تكون لك حقوق».
تجسد الحالة الفلسطينية هذا المفهوم بوضوح، حيث يُحرَم الفلسطينيون من المواطنة، وحرية التنقل، والحماية الدولية. ويعني وضع اللادولة وجودهم، أينما كانوا، في منفى خارج العالم القانوني، وفي حالة هجرة دائمة.
يشعر الفلسطيني في الشتات بأن أجزاء من لحمه تُقطع عندما يُعذَّب ويُقتل مواطنوه في الوطن، لأن ارتباطه بهم عضوي تحتمه الهوية والوجدان والانتماء الجماعي. لم يخرج الفلسطيني إلى المنافي باختياره، وإنما تحت سياط النكبة والتطهير العرقي. وفي حالة الفلسطينيين، وبما لا يسرّ العدو، تتوارث أجيالهم بالجينات ارتباطًا عاطفيًا، ثقافيًا وتاريخيًا بمواطنيهم ووطنهم لم يفصمه شيء.
المذابح التي يرتكبها الاستعمار الاستيطاني بحق الفلسطينيين في الوطن ليست مجرد فقدان أفراد يشكل وجود كل منهم في حد ذاته حجرًا في جدار الدفاع عن بقاء الهوية الوطنية. إنها تشكل استمرارية للنكبة وما أنجبته من المنفى الدائم والانفصال القسري عن الأرض والجذور. لا يشعر الفلسطيني في الشتات أبدًا بأنه «نجا» بخروجه وأفلت من تهديد الإبادة الحسيّة. إن معاناة أهله في الداخل هي جزء من تجربته الشخصية البعيدة كل البعد عن «النجاة»- بمعنى الإفلات من التهديد والتمتع بعيش طبيعي مطمئن.
بل إن ألم الفلسطيني المنفي المرتبط عضويًا بقضيته الوجودية وجودية يتضاعف عندما يُنظر إليه –خطأ- على أنه «ناجٍ»، وبذلك يمتلك ميزة عن مواطنيه تحت الاستعمار في الوطن. إنه تحت نفس التهديد، وإنما بخيارات أضيق للنضال بأكثر من التمسك بالهوية والتعبير عنها وجعلها حية وحاضرة في العالم. إنه يعي ضرورة النضال كوسيلة وحيدة للتخلص من عبء اللادولة/ اللاحقوق/ اللاإنسانية. ويذكره كل اعتداء على مواطنيه في الوطن بكَم هو مصيره مرتبط بقدرتهم على الصمود. وهو يحاول المساندة بكل وسيلة ممكنة: بالنضال السياسي، والإعلامي، وتصحيح السردية والدعوة إلى المناصرة.
ولكن حتى هذه الأشكال من المقاومة، في ظل أنظمة دولية منحازة للكيان الاستعماري، كثيرًا ما تعني أن يواجه الفلسطيني في المنفى القمع السياسي والتجريم القانوني– أو حتى الإقصاء المجتمعي. ثمة منظومات دولية، وحكومات غربية وغير غربية تتعامل مع أي دعم للمقاومة الفلسطينية على أنه تهديد أمني، وهو ما يضع الشتات الفلسطيني في معضلة مزدوجة: ثمة الشعور بالواجب الأخلاقي والوطني الطبيعي تجاه القضية، وثمة من جهة أخرى التهديد بالملاحقة أو المزيد من النفي على النفي. لكنّ ما لا يمكن فهمه ولا تفهمه هو أن يمارس فلسطيني الشتات أي نشاط يحبط المقاومة، أو يشكك في جدواها تحت أي مبررات. في هذه الحالة، يمكن باطمئنان استنتاج أنه خضع للتيئيس، وتخلى عن فلسطينيته.
يجب إدراك أن الكيان الاستعماري يمارس سياسة «الإبادة السياسية» ضد الفلسطينيين بإحباط إرادة المقاومة، سواء بالقتل الجماعي، والتدمير الممنهج للبنية التحتية، والتنكيل بالمجتمع الفلسطيني في الداخل، أو باستهداف الهوية والوجود التاريخي لكل فلسطيني في العالَم. والطبيعي هو أن يخلق ذلك دينامية معاكسة: كلما زاد القمع وفظاعة الاستهداف، زاد الوعي بأهمية المقاومة التي تشكل التضحية جزءًا أصيلًا منها. والبديل هو الاستسلام لمشروع استيطاني إحلالي جوهره الإبادة الجماعية لأصحاب الأرض الحقيقيين، فيزيائيًا وتاريخيًا، بالقتل أو بإلغاء الهوية، أو الإخضاع والتحييد.