الدستور
تكادُ تنعدم الحاجة إلى الحملات الدعائية في كثير من دوائرنا الانتخابية. فلا ضرورةَ لتعليق صور المترشحين على أعمدة الإنارة، أو توزيع برنامجهم الانتخابية على ورق رقيق عقبى الصلوات عند أبواب المساجد، ولا داعي إلى رفع شعاراتهم البراقة على يافطات تتراقص بين الحبال، ستسقط مع أول هبة ريح. لا حاجة إلى كل هذه التكاليف والمصاريف والجهود. فالناخب في تلك الدوائر يعرف تماماً لمن سيمنح صوته، يحفظ هذا حتى من قبل أو يولد أبوه. فصوته سيذهب لمن قرّرته عشيرته، أو منطقته أو قريته، ولا سبيل للخروج عن هذا الإجماع تحت أي ظرف كان.
جرت العادة في الانتخابات الحقيقية أن يعمد المترشح إلى الناخبين الرماديين، الذين ليس لهم اتجاه واضح، أو أنهم مترددون مشتتون، فيحاول أن يقنعهم ببرنامجه ويجعلهم يغيرون وجهة نظرهم ويصوتون له. وهذا أيضا يكاد يختفي في كثير من دوائرنا ومناطقنا، لأن التصويت على مرشح العائلة أو المنطقة ليس وجهة نظر، أو قناعة، ولا ترفاً، أو رأياً. بل هو تلزيم لا يخرج عنه إلا مذموم.
ومع هذا فواقعنا الحقيقي وفضاؤنا الافتراضي (فيسبوك) يعجان الآن بصور مرشحين محسنة، ويفيضان بالبطولات الزائفة والكلام العالي، فالأكاذيب الكبيرة والبطولات الزائفة لا تتكاثر إلا بعد رحالات الصيد، وخلال الانتخابات، وأيام الحصايد.
فقديماً كان الحصّادون يلجأون إلى تكتيك يخفف من تعبهم، ويبرد عليهم حرهم، ويمكنهم من تحمل مشقة جزِّ السنابل بالمناجل. هذا التكتيك يتمثل في سواليف الحصيدة. إي الكلام المتبادل بينهم. الكلام العجيب الغريب المضحك المبكي، أو الأحلام الكبرى الشهية أو المشاريع العملاقة الفضفاضة، التي يكون لها في البال جذر صغير. وكل هذه السواليف تذهب أدراج الرياح، بعد أن يرتح الحصاد، وينهي حصيدته، فينسى ما قاله أو سمعه.
صحيح أن الانتخابات تجيء في أجواء خريفية معتدلة ميالة إلى البرودة. ولكن على ما يبدو أن الحاجة تظل قائمة إلى كلام يبرد عنا حرها، ولكني لم أتوقع أن يصل حجم التبريد إلى هذا الحد المؤلم. نحتاج أن نكون واقعيين قليلاً. فالانتخابات ليست تمضية للوقت الصعب. هي ليست هدفا بل وسيلة لهدف كبير.
في النهاية فإن هؤلاء الناخبين المستلبين الموجّهين المُسيطر عليهم سيتحولون بعد إيصال مترشحهم إلى نائب في البرلمان إلى ساخطين على المجلس النيابي بكليته، منتقدين ضعف أدائه وقلة حيلته. وسينسون أنهم لم يصوتوا إلا على أساس القرب العائلي أو الماطقي، ولم يأبهوا بالمؤهلات الحقيقية التي تجعل المترشح نائباً يمثلهم.