عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Sep-2024

اللغة في المواجهة*د. صلاح جرّار

 الراي 

في العدوان الصهيوني الوحشي على غزّة والضفّة الغربيّة تؤدّي اللغة دوراً فاعلاً سواءً في مناصرة المعتدين أو في مجابهتهم والتصدّي لهم، وليس المقصود بانخراط اللغة في هذه المجابهة أن يتصدّى الإعلاميّون والمثقفون والسياسيّون للعدوّ بألوان من الشتم والسّباب، فهذا النوع من التصدّي مهما كان مقذعاً لا جدوى منه، وهو ممّا يصحّ فيه القول: أوسعتهم شتماً وفازوا بالإبل.
 
إلاّ أنّ من يتأمّل اللغة التي يستخدمها العدوّ الصهيوني في حربه على غزّة والضفّة الغربيّة والدول العربيّة والعقل العربي والروح المعنوية العربيّة، واللغة التي تستخدمها المقاومة ومؤيّدوها، يجد أنّ ثمّة صوراً متنوّعة من توظيف اللغة يلجأ إليها الطرفان في هذه المواجهة، وهي صورٌ يتوخّى كلّ طرف أن يكون لها تأثيرها البالغ في المتلقين سواءً أكانوا من المؤيّدين أم من الأعداء والخصوم.
 
إنّ الأثر الذي يسعى إليه الصهاينة من استخدام هذه الصور اللغوية هو الأثر النفسيّ، واللغة في هذه الحال، هي سلاحٌ فاعلٌ في الحرب النفسيّة، وتعتمد هذه الحرب آليات لغوية نفسية، منها: آلية التلاعب اللغوي أو اللعب باللغة وهي آلية مخادعة ومراوغة تنطلي على البسطاء وغير المتمكنين من اللغة وحيلها ودلالاتها القريبة والبعيدة، كما تنطلي على بعض السياسيّين الذين يحكمون على الكلام من ظاهره فقط، ومن أمثلة ذلك تصريحات المسؤولين الأميركيين التي يقولون فيها إنّ الإدارة الأميركية لا تقبل باحتلال إسرائيلي طويل الأمد لقطاع غزّة، فالذي يقرأ هذا التصريح من بسطاء الناس وضعفاء سياسيّيهم يحكم من الوهلة الأولى أن الإدارة الأميركيّة تعارض الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزّة، لكنّهم قلّما ينتبهون إلى أنّ هذا التصريح يبطن موافقة أميركية على قيام الإسرائيليين باحتلال غزّة لمدّة قصيرة، ويترك تحديد مدة الطول والقصر للجانب الإسرائيلي.
 
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما يطرق مسامعنا يومياً من الدعوات التي يطلقها المسؤولون الغربيّون والصهاينة إلى عدم التصعيد في الحرب الجارية وعدم توسيع ما يسمّونه رقعة الصراع، وهي دعوات يتوهم السامع لها أنّها ذات نوايا طيبة تنشد السلام والهدوء، لكنّها في الحقيقة دعوات تبطن الرغبة في استمرار استفراد الجيش الصهيوني والدول الداعمة له بالفلسطينيين قتلاً وأسراً وتجويعاً وتعطيشاً وتهجيراً وإبادة دون تدخل أحد لوقف ذلك.
 
وثاني الآليات اللغويّة النفسيّة التي يستخدمها الصهاينة في حربهم النفسيّة هي استعمال مفردات استعلائية، نحو قولهم: تمّ تحييد المهاجم، وكأنّه عثرة بسيطة لا قيمة لها في طريقهم وتمت إزالتها، وقولهم: تمت إزالة التهديد، بعد قصفهم لمجموعة من الشباب، وتهديدهم بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، وتحويل بيروت إلى غزّة أخرى، أي تسوية بيوتها بالأرض، وقولهم: قضينا على المهاجم، وغير ذلك كثير مما يهدف المسؤولون الصهاينة من خلاله إلى بعث الطمأنينة في نفوس الإسرائيليين، وبعث اليأس في نفوس الفلسطينيين ومؤيديهم والتظاهر بأنهم لديهم اليد العليا على عدوّهم وأن لهم اليد الطولى التي تستطيع الوصول إلى أي شخص في أي مكان.
 
وهاتان الآليتان تتماشيان مع طبع الكذب الذي درج عليه الإسرائيليون والذي اكتشفه العربُ متأخّرين، ولكن ليس بعد فوات الأوان، فما زال أمام العرب فرصة لمراجعة كلّ الأكاذيب الصهيونية والغربية التي انطلت عليهم منذ بداية الاحتلال الصهيوني المدبّر عالمياً لفلسطين. وما زال الإسرائيليون طوال مدّة عدوانهم الحالي الوحشي على غزّة والضفّة الغربيّة يتدثّرون بالكذب ويتفنّنون فيه في مثل ادّعائهم أنّهم أتمّوا تفكيك كتائب المقاومة في غزّة، وأنّهم بقصفهم للمستشفيات والمدارس وأماكن النزوح يقصفون قيادات للمقاومة، وكذلك بعدم اعترافهم بخسائر جيشهم في العمليات العسكرية والتهوين منها بأساليب لغوية لا تحصى، مقابل المبالغة في خسائر أعدائهم.
 
أمّا المقاومة فإنها إلى جانب إدراكها لصور اللعب باللغة التي يمارسها الصهاينة والقيام بتفنيدها وبيان فسادها وكذبها، فإنّ لها تعبيراتها اللغوية ذات الوقع النفسي العميق، ومن ذلك عبارة: فأرديناهم قتلى، وعبارة: ندكّ مستوطنات العدوّ، وعبارة: دحر الاحتلال وهي عبارات لها وظائف نفسيّة مؤثّرة منها القدرة على التعبير عن التشفّي بالعدوّ، فعبارة أرديناهم تعني أوردناهم الردى أي الهلاك، وهي ذات معنى أبلغ من قتلناهم أو أوقعناهم قتلى، وكذلك الفعل (ندكّ) أشدّ وقعاً من الفعل نقصف، ومن وظائف هذه الاستخدامات التعبير عن القوّة والتمكّن من التحكم بسلاح المواجهة، وفي ذلك إهانة وإذلال للعدوّ وتهوين من شأنه، وتعبير عن الثقة بالنفس.
 
ولأنّ الاحتلال الصهيوني لا يمتلك سلاح (الحقّ) باحتلال الأراضي والسيطرة عليها، فإنّه يقوم بنشر الأكاذيب واستخدام أسلحة التهويل والمبالغة والتلاعب باللغة، لتعويض ما ينقصه من حقٍ في احتلال أرض غيره، بينما تتميّز اللغة التي تستخدمها المقاومة بالصدق والاعتدال وقوة التأثير، لكون أصحابها أهل حقٍّ أوّلاً، ولكونهم ثانياً متمكنين من اللغة العربيّة الأمّ ودلالات مفرداتها ودقة استخداماتها ومفاتيح تفعيل أثرها ووقعها في المتلقّين.