شركات التكنولوجيا.. هل هي أجهزة مخابرات الغد برأسمالية المراقبة؟
فايننشال تايمز - يمكن استخدام كثير من النعوت لوصف كتاب شوشانا زوبوف الأخير: رائد، مهيب، مثير للقلق، مبالِغ في التخوف، سخيف ومناف للعقل، على أن هناك صفة واحدة تكفي لاختزال الكتاب: لا يمكن تفويت قراءته، مهما كانت الأحكام السابقة أو اللاحقة في شأنه.
بينما نتحسس طريقنا في الظلام في محاولة لفهم ملامح عصرنا الرقمي، يسلط كتاب "عصر رأسمالية المراقبة" ضوء قويا على الطريقة التي تعمد بها هذه الثورة الأخيرة على تحويل اقتصادنا، وسياستنا، ومجتمعنا – بلا وحياتنا كلها، باختصار.
باعتبارها مبتكرة مفهوم "رأسمالية المراقبة"، تلعب زوبوف دورا مقنعا في شرح طرق هذا "المشروع التجاري المفترس والجديد تماما" بإعادة كتابة قواعد اللعبة الاقتصادية بشكل جذري، ما يوجد اختلالات جديدة وغير عادية تفتقر إلى التناظر في المعرفة والسلطة.
من خلال تعقب كل نقرة لنا، وكل تعبير رقمي عن الاهتمام والطموح والشوق والرغبة، بإمكان رأسماليي المراقبة التسلق داخل رؤوسنا، وبيع تلك الرؤى السلوكية إلى زبائنهم الحقيقيين، وهم المعلِنون.
على الرغم من أن زوبوف تشغل منصب أستاذ فخري في كلية هارفارد للأعمال، إلا أن روايتها مثيرة لجدل حاد بقدر ما هي أكاديمية. وهي مصممة على إيقاظ شعورنا بالدهشة والغضب من الطريقة التي تطورت فيها هذه الرأسمالية المارقة، لتسيطر على حياتنا وتهبط بمستواها، إلى حد كبير بدون ملاحظة وبدون أن يقف في وجهها أحد.
وتقدم أيضا ادّعاء آخر أكثر إثارة للقلق وأكثر إثارة للجدل: أن رأسمالية المراقبة أوجدت نوعا جديدا من السلطة غير الخاضعة للمساءلة: الذرائعية. وتعرف هذا بأنه ذرائعية استخدام أدوات السلوك لأغراض التعديل، والتنبؤ، والاستفادة المالية، والسيطرة، التي تهدد بتحدي بعض من وظائف الدولة واغتصاب سيادة الشعب. بإمكان الذرائعية تحديد الغايات، لأنها تستطيع التلاعب بالوسائل.
ولأن هذا تطور غير مسبوق، فإننا نفشل في فهم ما يحدث، تماما كما فشلنا في فهم صعود الحركات السلطوية الشمولية في أوروبا، في عشرينيات القرن الماضي.
علاوة على ذلك، حتى في الوقت الذي ندق فيه ناقوس الخطر، لا ينبغي أن نتوقع من الحكومات وقف هذه التطورات الخبيثة، لأنها تقع بشكل أو بآخر ضمن الكيانات المستفيدة منها، إن لم تكن حتى من المتواطئين معها.
الأوامر الأمنية من الدول في عالم ما بعد أحداث 11 / 9، كانت تعني أن الإدارات الأمريكية قد منحت حرية كبيرة إلى شركات التكنولوجيا لتطوير رأسمالية المراقبة، بينما قفزت القيادة الصينية عليها لتستخدمها وسيلة قوية لتوطيد السلطة.
التركيز الرئيس لتحليل زوبوف، والهدف الأساسي لهجومها، هو شركة جوجل، وتحديدا محرك البحث.
وهي تجادل أن شركة البحث ابتكرت وأتقنت رأسمالية المراقبة إلى حد كبير، بالطريقة نفسها التي ابتكرت فيها شركة جنرال موتورز الرأسمالية الإدارية وأتقنتها قبل قرن من الزمن.
على أن الممارسين الآخرين لرأسمالية المراقبة يأتون من أجل توجيه ضربات متتالية شرسة، على الأخص من شركات من شاكلة "فيسبوك" و"مايكروسوفت".
من وجهة نظر زوبوف، مهمة شركة جوجل الأصلية لجعل جميع معلومات العالم متاحة أمام الناس، تحولت إلى دافع قوي لا يرحم لكسب المال من خلال استغلال وتعديل السلوك البشري، ومن خلال عرض الإعلانات للمستخدمين تماما، في اللحظة التي يكونون فيها في أقصى حالات الضعف أمام الإقناع وتوليد احتياجات لا يعرفون أنها لديهم.
تسعى شركة جوجل الآن إلى الاستيلاء على جميع بياناتنا، من خلال ابتكار منتجات جديدة لشفط كل جزء على الخريطة الرقمية.
كل جهاز "ذكي" – من المساعدين الرقميين، إلى موازين الحرارة الشرجية، والسيارات ذاتية القيادة، إلى المنازل المتصلة – أصبح آلية لجمع البيانات.
تعد جميع هذه المستحدثات بمنزلة مرايا باتجاه واحد تسمح لرأسماليي المراقبة بالتجسس علينا بدون أن نرى ما يحدث خلف الزجاج إطلاقا.
وتكتب: "مر علينا زمن حين كنا نبحث في محرك "جوجل"، لكن الحاصل الآن هو أن محرك "جوجل" هو من يبحث فينا" كي لا نقول يعبث بنا.
سبعة من منتجات ومنصات شركة جوجل ينخرط فيها مليار مستخدم فعال شهريا: البريد الإلكتروني جي ميل، وأندرويد، ومتصفح كروم، والخرائط (مابس)، والبحث (سيرتش)، ويوتيوب، ومتجر تطبيقات جوجل، ما يمكّن الشركة من تعقب مزيد من مجالات حياة أي مستخدم.
بالمثل، فإن شركة فيسبوك لديها أكثر من ملياري مستخدم وتمضي أيضا إلى توسيع نطاق اهتماماتها إلى العالم المادي.
تقارن المؤلفة توسع رأسماليي المراقبة بتوسع الغزاة الإسبان، الذين راهنوا على أراض بكر في العالم الجديد، في الوقت الذي قمعوا فيه سكان أمريكا الأصليين، الذين لم يكونوا على علم بالخطر الذي جاء إليهم.
على أن هناك طبيعة ذات جانبين لرأسمالية المراقبة، وهي طبيعة تجعلها خطيرة جدا، من وجهة نظر زوبوف، حيث تختفي الحقيقة المظلمة خلف الوهم البراق الظاهر للعيان.
مستخدمو محرك شركة جوجل ليسوا زبائنها، ما يعني أنها غير مكترثة نهائيا باهتماماتهم الحقيقية. محركات البحث المدعومة بالإعلانات دائما ما تعطي الأولوية للذين يدفعون الفواتير، وتفضلهم على الذين يستخدمون خدماتها، طالما ظلوا مدمنين عليها.
كانت هذه أيضا وجهة نظر سيرجي برين ولاري بايج، اللذين أسسا شركة جوجل، واللذين قدما ورقة بحث في عام 1998 تسلط الضوء على مخاطر الإعلانات.
كانا قد قالا في البحث: "نتوقع أن محركات البحث الممولة من الإعلانات ستكون منحازة بطبيعتها نحو المعلنين، وتبتعد عن احتياجات المستهلكين. من الصعب جدا كشف هذا النوع من التحيز، لكن لا يزال من الممكن أن يكون له تأثير كبير على السوق".
تغيرت وجهة النظر العامة هذه عندما أدركت شركة جوجل أن الرؤى السلوكية التي تستطيع استخلاصها من بياناتها هي منجم ذهب محتمل، وتوفر مكافآت أكبر بكثير من الأعمال الأخرى التي تعتمد على الإعلانات مثل التلفزيون التجاري.
تجادل زوبوف بأن أوضح تبرير منطقي لرأسمالية المراقبة قام بتحديده هال فاريان، كبير خبراء الاقتصاد في شركة جوجل، الذي يشار إليه في بعض الأحيان بأنه "الأب الروحي" لنموذج الإعلانات في الشركة.
باعتباره خبيرا في المعاملات التي تتم بواسطة الكمبيوتر، حدد فاريان أربع سمات لهذا الاقتصاد الجديد: استخراج البيانات وتحليلها؛ أشكال تعاقدية جديدة بسبب التسييل الأفضل؛ إضفاء الطابع الشخصي والتخصيص؛ التجريب المستمر.
هذه هي الصيغة التي مكنت شركة جوجل من توليد ثروتها الهائلة بمساعدة قصوى من محركها، وتم نسخها من قِبل الكثيرين منذ ذلك الوقت.
ما يجعل رأسمالية المراقبة واسعة الانتشار بشكل خاص هي الطريقة التي تفترس بها نقاط ضعفنا السلوكية. في الواقع، تجادل زوبوف بأن القدرة على التداول والمتاجرة في سلوكنا أوجدت "وهما سلعيا" جديدا، بحسب تصنيف كارل بولاني.
من وجهة نظر أستاذ التاريخ، لم ينطلق اقتصاد السوق فعلا إلا عندما تطورت ثلاثة "ابتكارات" ذهنية، على شكل العمالة والأرض والمال، ما أدى إلى تحول المفاهيم المجردة إلى سلع يمكن تبادلها.
بالطريقة نفسها، تقول زوبوف إن رأسماليي المراقبة كانوا قادرين على تسويق قصة السلوك، على نحوٍ يحول بياناتنا إلى أرباح.
"لم يعودوا يستضيفون المحتوى فحسب، بل أيضا وبشكل قوي وسري ومن جانب واحد استخراج القيمة من ذلك المحتوى".
المكان الذي تضل فيه زوبوف طريقها في أرض أكثر إثارة للجدل هو في تحليلها للسلطة.
رأسماليو المراقبة ليسوا قادرين على تحقيق الدخل من بياناتنا فحسب، بل وبإمكانهم أيضا استخدامها للتنبؤ بسلوكنا وبالتالي تعديله. من الناحية الميكانيكية، لم يعودوا مجرد أجهزة استشعار، بل أيضا مشغلون.
وهي تتعقب خطا مستقيما من النظريات السلوكية المثيرة للجدل من عالِم النفس بي إف سكينر، من جامعة هارفارد في الستينيات، إلى النظريات التي يتبناها اليوم ألكس بينتلاند، الأستاذ في معهد ماساتشيوستس للتكنولوجيا، ومؤلف كتاب ’الفيزياء الاجتماعية‘.
تدعي المؤلفة أنه من وجهة نظرهما قد يتبين أن "الحقيقة" الحاسوبية هي طريقة أكثر فعالية لإدارة مجتمع من الحوكمة البشرية. الهدف هو استبدال استقلالنا السياسي بكوننا تحت حكم الآخرين. على أن السؤال هو: من سيحدد قيم هذا الآخر الكبير؟