عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Jul-2024

د. رشا سلامة* د. رشا سلامة

 الغد

لا تكاد ذكرى تتعلق بالحبيب بو رقيبة، تمر، من دون أن تستذكر مشيك في "النهج" الذي يحمل اسمه في العاصمة التونسية.
ستجد ذاتك تستذكره، ليس حين تراه ممتطياً جواده وملوحاً بالنصر، في المجسم المنتصب في مطلع الشارع فحسب؛ بل حين ترى مشاهد للتوانسة مغايرة لما اعتادت عليه عينك في معظم البلاد العربية.
 
المنصت للأحاديث التي تدور في المقاهي الرصيفية المنتشرة على جانبي "النهج"، سيجد نقاشاً محتدماً يصب جله في إعادة إحياء دعوات بو رقيبة، لجعل فريضة الحج "داخلية" في تونس، عوضاً عن "تبديد" المال خارجياً.
نقاش كالآنف، قد يصل حد التجريم في عواصم عربية أخرى، لكنه شائع وحاضر بثقة عالية في تونس.
المساواة في الميراث، تجريم الزواج الثاني، والكثير من الثيمات، هي نكهة الفكر التونسي، ولعل الفرادة تكمن في أن نقاشات من هذا القبيل محصورة بالنخب في البلاد العربية، لكنها شعبية ونخبوية على السواء لدى التوانسة.
وقد تلحظ في مرات أن التفكير النقدي الذي ينفض الثوابت كلها، قد يطال نواحي لن ترضى عنها كثيراً، كقومي عربي، على سبيل المثال، منها إعادة النظر في الامتداد العربي بتداخله الاقتصادي والسياسي. قد تسمع من التوانسة سؤالاً مفاده: هل ثمة فائدة قد تترتب من التواصل مع كيان الاحتلال مثلاً؟ وعلى صدرك أن يحتمل نقاشاً من هذا القبيل، لا سيما حين تعرف أن التفكير النقدي منظومة لا يمكن لك فصلها عن التوانسة، وحين تعرف أن نزعة القومية العربية ستغلب، فتجد المعظم ينتصر لفكرة استمرار مقاطعة كيان الاحتلال، ورفض نسج علاقات معه على أجساد الفلسطينيين.
وحسبنا في هذه النقطة تحديدا؛ أن نستذكر الحبيب بن رقيبة، الذي استضاف منظمة التحرير الفلسطينية عند خروجها من لبنان، بدافع القومية العربية أولاً، ولكون تونس هي مقر جامعة الدول العربية آنذاك، ولضغط زوجة بو رقيبة، وسيلة بن عمار، لكن تلك الإقامة كانت مشروطة إلى حد يشي بحجم نزعة التفكير التي تغلب على العاطفة والانفعال، ولعل هذه سمة رئيسة في الفكر التونسي.
بالعودة إلى شروط الإقامة في تونس، يتضح أن الرجل كان على قيد الحذر والحسم؛ إذ إنه في وقت أعلن فيه وزير خارجيته آنذاك الباجي قائد السبسي أن بو رقيبة قرر الاستضافة دون أن يعود إليه، سوى للإخطار؛ فإن شروطا من قبيل عدم عسكرة الوجود الفلسطيني كانت حاسمة، وحتى حين حلت القيادة الفلسطينية على "فندق سلوى"؛ فإن سيارات منع الشغب كانت تتأهب على باب الفندق، بذريعة الحماية، وكانت المعسكرات بعيدة عن العاصمة التونسية، ولا استعراضات عسكرية مسموحة، مثلما كان الباب مفتوحاً على مصراعيه في بيروت، وشروط أخرى لا يتسع المقام لذكرها، لكنها تعكس تفاصيل عقلية الرجل ومنطقه في إدارة الأمور.
والشيء بالشيء يذكر؛ حين أُبلِغَ بو رقيبة ذات يوم بأن الفلسطينيين باتوا يتسببون بأضرار للسياحة، لا سيما عقب حادثة حمام الشط، فما كان منه سوى أن استشاط غضباً، وكاد يهم بترحيلهم، حتى هاتفت وسيلة بن عمار، "أبو إياد"، طالبة منه تدارك الموقف.
وما كان بو رقيبة ليعدُل عن قراره لولا أنه خشي أن يسجل القذافي موقفاً عليه، وأن يتخذ من خلخلة الأوضاع ذريعة للإفتاء في الشأن التونسي.
حوادث من هذا القبيل كفيلة بكشف عقلية بو رقيبة، التي صبغت بدورها مزاج الشعب التونسي، وطبيعة تعامله مع الأمور والقضايا المحلية والعربية.
ولعل فيديو تهكم بو رقيبة على طروحات القذافي، وشعارات العرب الكبرى، عموماً، كفيل بإظهار العقلية التي انبثق عنها حديثه الشهير لأهالي القدس، قبل حدوث نكسة العام 1967، حين نصحهم بعقد الصلح مع الإسرائيليين؛ لاختلال موازين القوى.
رجمه الفلسطينيون آنذاك بالطماطم، وسيصاب من يختلط بالتوانسة بالدهشة حين يجد شريحة كبيرة منهم، على دراية بهذا الموقف، وهذا ما يجعل كثيرين منهم يتوجسون خيفة من الحديث عنه بإيجابية أمام الفلسطيني؛ مخافة أن يثيروا حفيظته.
وإن شعر كثيرون منهم بموقفك الإيجابي من بو رقيبة، أو المحايد على الأقل، فإنهم ينبرون على الفور للدفاع عن وجهة نظره، والبرهنة على صحتها، بالقول إن الفلسطينيين والعرب عموماً وصلوا إلى هذه النتيجة بعد مضي عقود، وأن بو رقيبة كان يستشرف المستقبل جيداً.
كان بو رقيبة قوياً وحاداً في التغيير، ولم يكن متدرجاً، وربما يكون هذا لقناعة لديه، مفادها أن حجم تغلغل الفكر القديم كبير إلى حد لا تصلح فيه سوى الحدة في التغيير والإجبار في مرات كثيرة؛ ليحدث انتفاضة فكرية وثورة على الموروث القديم؛ فكرياً ودينياً واجتماعياً.
أعوام لا يستهان بها فصلت بين إقصاء بو رقيبة وتهميشه، ومن ثم عزله وفرض إقامة جبرية عليه، وبين "ثورة الياسمين" على زين العابدين بن علي، ولعل اسمها يشف النمط المزاجي والفكري الذي خلقه بو رقيبة لدى شعبه؛ أن تكون قوياً يانعاً على الدوام، بلبوس رقيق متحضر لا يتنازل عن جمالياته قيد أنملة، ولا يحتفي بثقافة الموت، تماماً كما الياسمين، الذي بات شعاراً متعارفاً عليه للتوانسة وزعيمهم الحبيب بو رقيبة.