الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مقدمة
سوف يجد الناظر في المشهد الدولي اليوم أن الجدل حول صراع القوة بين الولايات المتحدة والصين لم يعد يدور حول حجم الأساطيل والمدرعات أو عدد القواعد العسكرية. لقد أصبح هذا منظورًا ينتمي إلى الماضي. الآن، تُصاغ القوة في القرن الجديد في فضاءات جديدة هادئة لا تثير الكثير من الضجيج الإعلامي، لكنها تُعيد رسم قواعد النظام العالمي. بدلًا من ساحات النفوذ التقليدية، أصبحت أعماق البحار، والممرات القطبية، والمدارات الفضائية، والبنية التحتية الرقمية، وأنظمة الدفع والاتصال والتقنية هي خطوط التماس الفعلية بين واشنطن وبكين. ولذلك تتباين التقديرات: بينما يعتقد البعض أن القوة العسكرية الأميركية الهائلة تضبط الصين، يرى آخرون أن بكين تتحرّك بهدوء وذكاء، وتُراكم عناصر نفوذ تجعلها أقرب إلى أن تكون المهندس الفعلي للنظام الدولي المقبل.
ربما كان هذا الإدراك الجديد هو الذي دفع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى الإعلان في الحادي عشر من هذا الشهر عن إنشاء تحالف دولي جديد باسم "سلام السيليكا" أو "سلام أشباه الموصلات" Pax Silica. ويضمّ هذا التحالف سنغافورة وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وإسرائيل، ويهدف إلى تعزيز سلاسل الإمداد للمعادن الحيوية والتقنيات المتقدمة مثل الذكاء الصناعي، والتصدّي للهيمنة الصينية في هذه المجالات من خلال تقوية التعاون في البحث والتطوير والتصنيع والبنية التحتية الحيوية.
أدركت الصين مبكرًا أن النفوذ العالمي لم يعد يُصنع من فوهات المدافع أو معدلات النمو وحدها. وأن القوة الحقيقية أصبحت تتعلق بالقدرة على الوصول إلى الموارد النادرة في قيعان البحار، وتأتي من بناء أنظمة ملاحة واتصال خاصة، ومن التحكم في الإنترنت وسلاسل التوريد، ومن صياغة المعايير التي تنظم التكنولوجيا والمؤسسات الدولية. ولذلك ركّزت الصين على مدى العقود الماضية على ساحات لم تُولها القوى التقليدية اهتمامًا كافيًا: التعدين في أعماق المحيطات، والملاحة عبر الممر القطبي الشمالي، والشبكات الفضائية المتقدمة، والكابلات البحرية، وبناء بنى تحتية رقمية تُستخدم في التجارة، والدفع الإلكتروني، وتبادل البيانات.
وهكذا، إذا كانت الولايات المتحدة تراهن على أن يكبح تفوقها العسكري صعود الصين، فإن بكين تعتمد نهجًا مضادًا تمامًا: التوسع الصامت. وكما يقول كاتبا المقال أدناه، لم يكون رسو سفينة صينية في ميناء فيليكسستو البريطاني في الشهر الماضي قادمة عبر طريق تجاري جديد يمر بالمحيط المتجمّد الشمالي مجرد نجاح لوجستي، وإنما كان رسالة بأبعاد جيوسياسية عميقة. لم تعد الصين تلتزم بالمسارات التي رسمها الآخرون، وأصبحت تشقّ لنفسها طرقًا تجارية وتقنية تُعيد تعريف قواعد الحركة والتبادل. وقد وصفت بكين ذلك بأنه مساهمة في استقرار سلاسل التوريد، لكن العالم قرأه كمؤشر إلى انتقالها من لاعب ينافس إلى لاعب يعيد رسم الخريطة.
ولم يكن هذا التوسع اندفاعة مفاجئة بقدر ما جاء نتيجة تخطيط عميق بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي. وقد أدرك الاستراتيجيون الصينيون في تلك الفترة المبكرة أن الهيمنة على "حدود القوة-من المحيطات إلى الفضاء الخارجي، ومن البيانات إلى الأنظمة المالية- ستمنح بلدهم قدرة على رسم المشهد العالمي لاحقًا. ولذلك بنت الصين منظومة متكاملة: مؤسسات مختصة، كوادر علمية، تكنولوجيا متقدمة، اختراق للمؤسسات الدولية عبر التمويل والخبراء، وتأسيس منظمات بديلة حين يتعذّر تعديل القواعد داخل المؤسسات القائمة. وقد تركت هذه المنهجية القائمة على الصبر التراكمي الصين وهي تُمسك اليوم بأطراف متعددة في شبكة القوة العالمية، من البحار إلى الفضاء، ومن أنظمة القياس إلى فضاءات البيانات.
في المقابل، تعاملت الولايات المتحدة مع المشهد بمنظور ضيق، ينشغل بأعراض التنافس وليس بجذوره. وبينما انصبّ النقاش الأميركي العام على الرسوم الجمركية، وحرب الرقائق، والقيود على الشركات، والتوترات الدبلوماسية،كانت الصين تعمل بعيدًا عن الضوء، داخل اللجان الفنية للمؤسسات الدولية، وفي المختبرات الثقيلة، وفي مشاريع البنية التحتية العابرة للقارات. وبينما ظنت واشنطن أنها ستتمكن من احتواء الصين بالعسكر والاقتصاد، كانت بكين تتجه نحو مرحلة أكثر خطورة: الانتقال من قوة صاعدة تجاريًا ضمن قواعد النظام الدولي إلى قوة تشريع قادرة على كتابة قواعد النظام القادم.
ربما تكون هذه الفجوة بين القوتين هي مفتاح فهم السجال حول مَن يقود ومَن يتبع. لم تسع الصين إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة، واعتنقت بدلًا من ذلك استراتيجية من "التجاوز الصامت"، التي تقوم على بناء القدرات التقنية والعلمية، ونسج الشراكات، والتأثير في المؤسسات، وخلق بدائل عن النظام الدولي عندما يصعب تغييره من الداخل. وقد منحها هذا النمط تفوقًا نوعيًا: إنها تتجنب الصدام، لكنها تُراكم تأثيرًا يسمح لها بإعادة تشكيل نفس البيئة التي تُمارس فيها القوى التقليدية نفوذها.
وإذن، هل تستطيع الولايات المتحدة ردع الصين عسكريًا؟ يبدو هذا السؤال خارج السياق، بما أن الصين لا تسعى إلى اختبار التفوق العسكري الأميركي، وإنما إلى تجاوزه عن طريق إعادة تعريف ساحات القوة. وإذا كان النفوذ في عالم اليوم يتحدد بمن يمسك بالبنى الرقمية والفضائية والقطبية والمالية، فربما تكون بكين هي التي تُمسك بمفاتيح النظام المقبل، وتجعل حجم الأساطيل الأميركية غير ذي صلة. (بل إن تقديرًا أمنيًا أميركيًا صدر هذا الأسبوع رأي أن الولايات المتحدة لا تستطيع التغلب على الصين عسكريًا أيضًا، بل العكس).
إذا كان ثمة شيء في هذا التحوّل، فإنه يكشف عن أن الصراع الأميركي–الصيني لم يعد تنافسًا على التجارة أو التقنية بقدر ما هو معركة على صياغة مستقبل النظام الدولي نفسه. ومع استمرار الصين في بناء نفوذها في "الحدود الجديدة للقوة"، يترتب على الولايات المتحدة، والعالم معها، أن يتعاملوا مع حقيقة أن بكين لم تعد قوة صاعدة، وإنما أصبحت قوة تعيد رسم الحدود ذاتها التي تُقاس بها حدود القوة.
إليزابيث إيكونومي - (فورين أفيرز) 9/12/2025
عندما رست سفينة الشحن الصينية "إسطنبول بريدج" في ميناء فيليكسستو البريطاني في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، ربما بدا وصولها غير لافت؛ فالمملكة المتحدة هي ثالث أكبر سوق للصادرات الصينية، والسفن تتنقل بين البلدين طوال العام.
لكن ما كان لافتًا في "البريدج" هو المسار الذي سلكته. كانت أول سفينة شحن صينية كبرى تسافر مباشرة إلى أوروبا عبر المحيط المتجمّد الشمالي. وقد استغرقت الرحلة 20 يومًا، أي أسرع بأسابيع من الإبحار عبر الطرق التقليدية مثل قناة السويس أو حول رأس الرجاء الصالح. وقد اعتبرت بكين الرحلة اختراقًا جيوسياسيًا ومساهمة في استقرار سلاسل التوريد. ومع ذلك، كانت الرسالة الأهم غير مُعلنة: اتساع مدى الطموحات الاقتصادية والأمنية للصين في مجال جديد من مجالات القوة العالمية.
وليست مساعي بكين في القطب الشمالي سوى قمة جبل الجليد -بالمعنى الحرفي والمجازي. منذ خمسينيات القرن الماضي، ناقش القادة الصينيون التنافس في حدود العالم الحرفية والرمزية: أعماق البحار؛ القطبان؛ الفضاء الخارجي؛ وما وصفه الضابط السابق في جيش التحرير الشعبي، شيو قوانغيو، بـ"مجالات النفوذ والأيديولوجيا"، وهي مفاهيم تشمل اليوم الفضاء السيبراني والنظام المالي الدولي. هذه المجالات هي التي تشكل الأسس الاستراتيجية للقوة العالمية. وتحدد السيطرة عليها الوصول إلى الموارد الحيوية؛ ومستقبل الإنترنت؛ والمكاسب العديدة التي تترتب على طباعة العملة الاحتياطية العالمية؛ والقدرة على الدفاع ضد طيف واسع من التهديدات الأمنية. وبينما يركّز معظم المحللين على أعراض التنافس -مثل الرسوم الجمركية، وقطع سلاسل توريد أشباه الموصلات، والسباقات التكنولوجية قصيرة المدى- تقوم بكين ببناء القدرات والنفوذ داخل الأنظمة الأساسية التي ستصنع هوية العقود المقبلة. وكان القيام بذلك محوريًا في حلم الرئيس شي جين بينغ باستعادة مركزية الصين على الساحة العالمية. وقد قال شي في العام 2014: "يمكننا أن نلعب دورًا رئيسيًا في بناء الملاعب، حتى منذ البداية، حتى نتمكن من وضع القواعد لألعاب جديدة".
وضعت بكين نفسها في موقع جيّد لخوض هذه المنافسة. وهي تتعامل مع هذه الحدود بمنطق ثابت وكُتيّب إرشادي واضح. وهي تستثمر في القدرات الصلبة اللازمة. وتبني شراكات مع دول أخرى لتزرع نفسها في المؤسسات، وتغمر هذه الهيئات بخبراء ومسؤولين صينيين يخوضون لاحقًا حملات للتغيير. وعندما لا تستطيع استيعاب مؤسسة قائمة، فإنها نقوم ببناء واحدة جديدة. وفي كل هذه الجهود، تُظهر بكين قدرة عالية على التكيّف، حيث تُجرّب منصات مختلفة، وتعيد صياغة مواقفها، وتنشر قدراتها بطرق جديدة.
بدأ صانعو السياسات الأميركيون يستيقظون للتو فقط على حجم النجاح الذي ححقته الصين في بناء القوة في المجالات الأساسية لعالم اليوم. وهم الآن مهددون بتفويت التزام الصين بالهيمنة على عالم الغد. بعبارة أخرى، لا تكتفي الولايات المتحدة بالتخلي عن دورها في النظام الدولي الحالي فحسب، بل تتخلّف أيضًا في معركة تحديد النظام التالي.
عشرون ألف فرسخ تحت البحر
في العام 1872، أرسلت بريطانيا سفينة لاستخراج أول مخزون عالمي من العقد متعددة الفلزّات: تكتلات من رواسب قاع المحيط يمكن أن تحتوي على معادن حيوية مثل المنغنيز والنيكل والكوبالت. لكن العلماء لم يفترضوا حتى أوائل الستينيات أن هذه العقد ربما تنطوي على فوائد مالية كبيرة. وفي منتصف السبعينيات، ادعت شركة "ديب سي فنتشرز" الأميركية، وهي شركة فرعية لـ"تينيكو"، أنها تستطيع تلبية ما يقرب من كل احتياجات الجيش من النيكل والكوبالت بتعدين قاع المحيط الهادئ.
ولم تحصل "ديب سي فنتشرز" قط على الأذونات التي احتاجتها لجرف كميات ضخمة من العقد، وفي نهاية المطاف طُويت صفحة الشركة. لكن فاعلين دوليين آخرين بدأوا في تلك الأثناء مفاوضات حول حقوق الدول والتزاماتها بشأن محيطات العالم. وبلغت هذه المفاوضات ذروتها في اعتماد "اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار"، التي دخلت حيز التنفيذ في تشرين الثاني (نوفمبر) 1994. وشملت الاتفاقية قواعد حوكمة للموارد الموجودة في قاع البحار العميقة الواقعة خارج المياه الإقليمية للدول. وأنشأ أطراف الاتفاقية، بتمويل من كبرى شركات التعدين العالمية، "الهيئة الدولية لقاع البحار" لإدارة هذه الموارد.
بدأت الصين بحوثها الخاصة في تعدين أعماق البحار في أواخر السبعينيات. وطوّر علماؤها ومهندسوها نماذج أولية من الغواصات والمكائن القادرة على التعدين، وكذلك مسح قاع المحيط. وفي العام 1990، أسست بكين "هيئة الصين لأبحاث وتطوير الموارد المعدنية في المحيطات"، وهي هيئة تسيطر عليها الدولة تقوم بتنسيق أعمال التنقيب والتعدين في المياه الدولية. كما ضمّنت قدرات تعدين قاع البحار في خططها الخمسية بدءًا من العام 2011. وفي العام 2016، أصدرت بكين قانونًا لقاع البحار العميقة يهدف إلى تطوير القدرات العلمية والتجارية للصين وتوفير إطار للمشاركة في المفاوضات الدولية بشأن موارد قاع المحيط. وفي هذا المسار، أنشأت الصين ما لا يقل عن 12 مؤسسة مخصصة لأبحاث أعماق البحار وبنت أكبر أسطول في العالم من سفن الأبحاث المدنية.
يشير شي إلى قاع البحر العميق بوصفه منطقة أولوية للقيادة الصينية. وقال في أيار (مايو) 2016: "تضم أعماق البحار كنوزًا لم يتم اكتشافها ولم يتم تطويرها بعد. ومن أجل الحصول على هذه الكنوز، علينا أن نتحكم في التقنيات الأساسية اللازمة لدخول أعماق البحر، واكتشاف أعماق البحر، وتطوير أعماق البحر". وتهمين الصين بالفعل على سلاسل الإمداد العالمية للمعادن الأرضية النادرة المستخرجة من اليابسة، وسيعزز تفوقها في التعدين العميق من سيطرتها على هذه المعادن. كما سيعزز التعدين في قاع البحر هدفًا أمنيًا آخر للصين من خلال تسهيل رسم خرائط لقاع البحر ومدّ الكابلات البحرية التي يمكن استخدامها في دعم حروب السفن والغواصات. وقال شي في العام 2018: "لا يوجد طريق في أعماق البحر، ولسنا في حاجة إلى ملاحقة الآخرين؛ إننا نحن الطريق".
ومع توسّع القدرات المحلية للصين، توسع أيضًا دورها في "الهيئة الدولية لقاع البحار". وعملت بكين منذ العام 2001 بشكل شبه متواصل في مجلس إدارة الهيئة، وهو الجهاز التنفيذي المكوّن من 36 عضوًا والذي يتخذ قرارات أساسية بشأن لوائح التعدين، والموافقة على العقود، والأنظمة البيئية. وتقدّم الصين دعمًا كبيرًا للهيئة، من خلال تقديم الأوراق البحثية وإبداء التعليقات على المسودات. كما وضعت خبراءها ومسؤوليها في مناصب تقنية رئيسية داخل الهيئة، وتقدم لها دعمًا ماليًا أكبر من أي دولة أخرى. وبذلك وضعت الصين نفسها في موقع يمكّنها من ممارسة تأثير أكبر في صياغة القواعد واللوائح التي تحكم استكشاف واستغلال موارد قاع البحر. وقد حصلت الشركات الصينية بالفعل على خمسة عقود لاستكشاف التعدين في قاع البحر من الهيئة -وهو أكبر عدد من العقود بين جميع الدول.
بالتوازي مع ذلك، تسعى الصين بنشاط إلى استمالة الاقتصادات الناشئة والمتوسطة بقدراتها في أعماق البحار من خلال تشجيع الدول والشركات التي تحتاج إلى منصات أو سفن أو قدرات معالجة صينية الصنع على الاصطفاف مع مصالح بكين. وقد أنشأت الصين شراكة بحثية مع جزر كوك بهدف استغلال المعادن في قاع البحر في المنطقة لاحقًا، وهي تدرس اتفاقًا مشابهًا مع دولة كيريباس. وفي العام 2020، وبالتعاون مع "الهيئة الدولية لقاع البحار"، أنشأت بكين مركزًا للتدريب والبحث في تشينغداو لتزويد مسؤولي الدول النامية بخبرة عملية -مثل تشغيل المركبات تحت الماء-وبفرص للبحث المشترك. وضمن مجموعة "بريكس"، التجمع المكون من عشر دول والذي سُمّي نسبة إلى الأحرف الأولى من أسماء أعضائها الخمسة الأوائل (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا)، تعمل الصين على بناء تعاون من خلال "مركز أبحاث أعماق البحار" التابع لـ"بريكس" في هانغتشو.
مع ذلك، واجهت بكين مشكلات أيضًا على طول الطريق. فعلى الرغم من مبادراتها التعاونية، تقع الصين ضمن أقلية صغيرة من الدول التي تدعو إلى نهج أكثر تسارعًا في التعدين. ووفقًا لتقرير صادر عن "مؤسسة كارنيغي"، منعت بكين "بمفردها" في العام 2023 الهيئة من مناقشة حماية النظم البيئية البحرية وإقرار منع احترازي لإصدار تراخيص التعدين. وهذا يضعها في مواجهة نحو 40 من أعضاء الهيئة الذين يدعمون التوقف أو فرض وقف مؤقت على التعدين إلى حين وضع آليات صارمة للرصد وللضوابط البيئية. كما أنها لم تتمكن من إقناع حتى شركائها في "بريكس": البرازيل تدعم وقفًا احترازيًا لمدة عشر سنوات؛ وجنوب إفريقيا تريد أطرًا بيئية قوية وحماية اقتصادية. وتفضل الهند التنمية الأسرع، لكنها تتوجّس من استخدام الصين لسفن الأبحاث لأغراض عسكرية. كما تخشى العديد من حكومات منطقة آسيا والمحيط الهادئ -مثل اليابان وماليزيا والفلبين وبالاو وتايوان- من التوغلات ذات الدوافع العسكرية في مناطقها الاقتصادية الخالصة والتي تقوم بها سفن المسح الصينية. وعلى الرغم من أن بكين لم تربح بعد معركة وضع القواعد داخل الهيئة، فإنها لا تقف مكتوفة الأيدي. فهي تستثمر بقوة في تقنيات مزدوجة الاستخدام للتعدين في قاع البحر -وهي تقنيات ذات قيمة مدنية وعسكرية- مثل المركبات ذاتية التشغيل تحت الماء والغواصات المأهولة، والتي ستمكّنها من الهيمنة على التعدين التجاري في قاع البحر، ومن "مهاجمة تشكيلات السفن الكبيرة وقواعدها البحرية"، وفقًا لما كتبه أحد المحللين العسكريين الصينيين.
خارجًا، في العراء
ليس المحيط العميق هو الجبهة الوحيدة التي يسعى شي إلى السيطرة عليها. في العام 2014، أعلن أيضًا نيته جعل الصين "قوة قطبية كبرى". وكما هو الحال مع قاع البحر، يغص القطب الشمالي بالموارد الطبيعية. فهو يحتوي على نحو 13 في المائة من الاحتياطي العالمي غير المكتشف من النفط؛ و30 في المائة من الغاز الطبيعي غير المكتشف؛ ومخزونات مهمة من المعادن الأرضية النادرة. ومع ذوبان الجليد هناك، سيصبح القطب محلًا لممرات ملاحية جديدة -مثل ذلك الذي سلكته سفينة "إسطنبول بريدج". وفي ورقة بيضاء نُشرت العام 2018 حول القطب الشمالي، وعدت بكين ببناء "طريق حرير قطبي" من خلال تطوير هذه المسارات والاستثمار في موارد المنطقة وبناهاالتحتية. كما أعادت صياغة حوكمة القطب الشمالي لتشمل قضايا مثل تغيّر المناخ، ولتعزيز حقوق الدول غير القطبية. وجاء في الورقة: "إن مستقبل القطب الشمالي يخص مصالح الدول القطبية، ورفاه الدول غير القطبية، والبشرية جمعاء. وتتطلب حوكمة القطب الشمالي مشاركة ومساهمة من جميع الأطراف المعنية".
ولم يكن اهتمام بكين بالقطب الشمالي جديدًا. في العام 1964، أنشأت الصين "الهيئة الوطنية للمحيطات"، وهي وكالة حكومية كان من ضمن مهامها إرسال بعثات استكشافية قطبية. وقد تسارع بحثها المتعلق بالقطب الشمالي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وفي العام 1989، أسست الحكومة "معهد البحوث القطبية" في شنغهاي، ووسّعت قدراتها البحثية وشراكاتها المتعلقة بالقطب الشمالي طوال التسعينيات وأوائل العقد الأول من الألفية. وفي العام 2013، أصبحت الصين دولة مراقبًا في "مجلس القطب الشمالي"، الذي يضم ممثلين عن كندا والدنمارك (بما في ذلك غرينلاند) وفنلندا وآيسلندا والنرويج وروسيا والسويد والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الشعوب الأصلانية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الصين واحدة من أكثر الدول المراقبة نشاطًا في المجلس، حيث تشارك في مجموعة واسعة من مجموعات العمل والفرق المنتدبة. ويواصل الباحثون الصينيون الإصرار على ضرورة أن تعلب الصين دورًا أكبر في صنع القرار المتعلق بالقطب الشمالي، لأن تغيّر المناخ جعل من القطب قضية من قضايا "الحيّز العالمي المشترك"، ولأن الشركات الصينية أصبحت عنصرًا أساسيًا في قطاعات الشحن والطاقة في القطب الشمالي.
وقد واجهت جهود بكين مقاومة. أصبحت الدول القطبية قلقة من الاعتماد الزائد على الاستثمار الصيني ومن المخاطر الأمنية المترتبة على ذلك. ورفضت كل من كندا والدنمارك وآيسلندا والسويد عددًا من المشاريع الصينية المقترحة في أراضيها -أو قامت بإلغائها. ووفقًا لدراسة صادرة عن مركز "بلفر" في العام 2025، فإنه من بين 57 مشروعًا استثماريًا مقترحًا للصين في القطب الشمالي، لم يبقَ قيد التنفيذ سوى 18 مشروعًا.
ولكن، بينما أغلقت الدول الديمقراطية أبوابها في وجه الاستثمارات الصينية الجديدة، فتحت دولة من نوع مختلف أبوابها لها: روسيا. منذ العام 2018، قامت الصين وروسيا بإضفاء الطابع المؤسسي على مشاوراتهما الثنائية بشأن القطب الشمالي. وأصبحت علاقتهما أكثر وضوحًا بعد أن قامت موسكو بغزو أوكرانيا العام 2022 وتعرضت للعزلة الاقتصادية من بقية أعضاء مجلس القطب الشمالي. ومنذ ذلك الحين، وقّعت الشركات الصينية اتفاقيات لتطوير منجم للتيتانيوم وموقع لاستخراج الليثيوم، بالإضافة إلى إنشاء خط سكة حديدية جديد وميناء في المياه العميقة. وبضمها معًا، تتجاوز قدرات الصين وروسيا في الاستكشاف والتجارة والدوريات في القطب الشمالي تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة بفارق كبير. كما استخدمت الصين شراكتها مع روسيا لتعزيز وصولها العسكري إلى المنطقة. وقد أجرى البلدان منذ العام 2022 عدة تدريبات مشتركة، بما في ذلك في بحر بيرينغ وبحر تشوكشي وبحر القطب الشمالي الأوسع، وكذلك تسيير دوريات مشتركة بالقاذفات قرب ساحل ألاسكا. كما تعاونت بكين وموسكو أيضًا من أجل إدخال مجموعة "بريكس" بشكل أكثر مباشرة في مناقشات القطب الشمالي، وأنشأتا فريق عمل خاصًا بالعلوم والتكنولوجيا البحرية والقطبية، ودعت روسيا المجموعة إلى تطوير محطة علمية دولية في أرخبيل سفالبارد.
مع ذلك، لم تحقق جهود الصين في كسب النفوذ النجاح المنشود. كان تفاعل البرازيل والهند مع القطب الشمالي يتم أساسًا من خلال شراكات ثنائية مع روسيا. وقد أعرب بعض المحللين الهنود عن قلق واضح من توسع الدور الصيني في المنطقة. وعلى الرغم ما يبدو من انسجام ظاهري بين الصين وروسيا، فإن موسكو لم تدعم مسعى بكين للحصول على دور موسع في حوكمة القطب الشمالي. كما أن تدريباتهما العسكرية المشتركة تبقى ذات طبيعة استعراضية إلى حد كبير. وفي العام 2020، اتفق المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الروسية إلى "مجلس القطب الشمالي"، نيكولاي كورشونوف، مع تصريح وزير الخارجية الأميركي آنذاك، مايك بومبيو، الذي قال أن هناك مجموعتين من الدول -دول قطبية وأخرى غير قطبية- وأشار إلى أن الصين لا تمتلك "هوية قطبية". وفي العام نفسه، اتهمت موسكو أستاذًا روسيًا متخصصًا في دراسات القطب الشمالي بالخيانة العظمى بعد أن قدم للصين مواد سرية تتعلق بطرق كشف الغواصات. (يُتبع)
*إليزابيث إيكونومي Elizabeth Economy: باحثة أميركية بارزة متخصصة في الشؤون الصينية والعلاقات الدولية، تُعد من أهم الأصوات الأكاديمية في تحليل سياسات الصين الداخلية والخارجية. تعمل باحثة أولى في دراسات الصين بمعهد هوفر في جامعة ستانفورد. شغلت سابقًا منصب مديرة دراسات آسيا في "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك. تركز أعمالها على الحوكمة البيئية في الصين، والتحولات السياسية في عهد شي جين بينغ، وطموحات بكين الجيوسياسية إلى إعادة تشكيل النظام الدولي. وهي مؤلفة لعدة كتب مؤثرة، من بينها "النظام العالمي الصيني: طموح بكين لإعادة تشكيل العالم"، وتشكل كتاباتها مرجعًا مهمًا لصنّاع القرار والباحثين المهتمين بفهم استراتيجية الصين الصاعدة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: How China Wins the Future: Beijing’s Strategy to Seize the New Frontiers of Power