عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Jun-2025

"دراسات نقدية في إبداعات أردنية" لـ بكار.. نماذج من التنوع وثراء التجربة

 الغد-عزيزة علي

 انتقى الدكتور يوسف بكار في كتابه "دراسات نقدية في إبداعات أردنية: دواوين وتواليف"، نماذج من الإبداع الأردني، تمثّل تنوّع الرؤى وثراء التجربة. فمن قصائد عمر أبو الهيجاء، التي تجوب آفاق قصيدة النثر، إلى ديوان "دم حنظلة" لإبراهيم الخطيب، حيث يتشابك الشعر مع القضية، ويمتزج الفن بالوجدان؛ مرورًا بإبداعات عبد المنعم الرفاعي، التي تجمع بين الرهافة والتجريب، وانتهاءً بجهود يعقوب العودات في توثيق سيرة "عرار"، وتجربة سمير الدروبي في الكشف عن ملامح "المجمع العلمي العربي"، وختامًا بكتاب محمد الدروبي في تاريخ حركة إحياء التراث في الأردن.
 
 
كلّ دراسة من هذه الدراسات، مقاربة فكرية وجمالية، تحمل رؤية وتفتح أفقا للحوار مع النصّ ومع زمنه. إنها شهادة وفاء للإبداع الأردني، ودعوة لقراءته بعيون جديدة، دون الانبهار الكلي، ولا القسوة المطلقة. في هذه الكتاب الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون"، تتجاور التجاربُ كما تتجاور المدن في خريطة وطنٍ، يكتب أبناؤه ملامحه بالحبر والقصيدة، وبالجهد النقديّ المُلتزم.
 
يتناول بكّار في دراسته الأولى موضوع "سرد لعائلة القصيدة" في ديوان الشاعر الأردني عمر أبو الهيجاء، مبيّنا أن الأخير "لم يُرسِ سفينة شعره على شواطئ الشعرين الشطريّ والتفعيلي، بل حطّ في برّية قصيدة النثر"، كما يقول نزار قبّاني، الذي بدأ مسيرته الشعرية بالشعر الشطري، ثم انتقل إلى التفعيلي، وصولا إلى قصيدة النثر. ومع ذلك، يوضح بكّار أن أبو الهيجاء ظلّ يُغرّد على أغصان الأشكال الشعرية الثلاثة، وفقًا للرؤية والموقع والموقف.
ويشير بكّار إلى أنَّ عمر أبو الهيجاء شاعر نثري، ومع ذلك نجد – من حين لآخر – في بعض قصائد دواوينه "سطورا" موزونة تنتمي إلى بحور صافية، مثل: المتقارب، والرجز، والكامل، والمديد، بالإضافة إلى ارتكازات قافية إيقاعية جزئية، متقاربة حينا ومتباعدة حينا آخر، تُسهم في تعزيز الموسيقى الخارجية للنص، وتحميه من ضعف الرنين، كما تدعم الموسيقى الداخلية في الألفاظ، والجُمل، والتجاورات. ومن أمثلة ذلك ما ورد في قصيدته "نقاط": "الطريق وحدها تعرف إيقاع المتعبين، المدن تأكلها الشظايا، قلبي موسيقا الراحلين".
أمّا الدراسة الثانية، فتتناول ديوان "دم حنظلة" للشاعر الأردني إبراهيم الخطيب، الذي خصّصه بالكامل لرسّام الكاريكاتير الفلسطيني المعروف ناجي العلي، الذي اتّخذ من شخصية حنظلة رمزا للفلسطيني المعذّب والمناضل القويّ في آن معا. وقد صدر هذا الديوان في الذكرى الثالثة لاستشهاد ناجي العلي (1937–1987).
يضم ديوان الخطيب قصيدتين متلاحمتين متلازمتين، دون عنوان منفصل لكلّ منهما، إذ إنّ العنوان، كما يوضح بكّار، "ينداح فيهما إندياحا شاملًا، مدعّمًا بعدد من رسوم ناجي العلي المتوائمة مع ما يعنيه الشاعر ومسيرة حنظلة ذاته".
ومن أجواء الديوان نقرأ: "لا رثاء، ولا احتفاء بناجي، أي حي من المماتِ ناجي؟! أينما كنتَ، لا مفرّ من الموت، ولو كنتَ خلفَ برجٍ عاجي".
أمّا القصيدة الأخرى، وهي الأطول في الديوان، فهي منظومة من عدّة مقاطع تفعيلية على بحر المتقارب، وقد عزّز الشاعر موسيقاها باستخدام أحد أركان الموسيقا الخارجية، القافية، التي حافظ على رنينها الموسيقي بنَسَق متقارب ومتباعد في معظم المقاطع. ومن النماذج نقرأ: "حنظلة! لا تكذبِ البوصلة، تُهمتي خيمة، وجهتي غيمة، ودمي مرحلة."
ويؤكّد الباحث، في قراءته للديوان، أن شعر إبراهيم الخطيب عامة، وفي هذا الديوان خاصة، يتميّز بسمات شعرية واضحة في جانبي الموضوع والفن. فعلى مستوى الموضوع، يشغله – في هذا "الزمن المهزلة"، كما يصفه – قضايا الأمة الوطنية والسياسية، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، بأبعادها الشمولية والجزئية.
أمّا في الدراسة الثالثة، فيتناول المؤلّف حياة عبد المنعم الرفاعي وإبداعاته في مجالات الشعر والنثر والنقد. وقد أرفق في نهاية هذه الدراسة ملحقا يتضمّن حوارا أجراه الأديب شجاع الأسد مع الرفاعي، أدرجه بكّار في كتابه نظرًا لما يتضمّنه من مصطلحات نقدية للشاعر، مثل: "الرقيّ الشعري"، "السموّ والتحليق"، "الصفاء" إبّان النظم، والموقف من "الوعي واللاوعي"، و"الشاعر والصَّنْعة".
ويؤكد بكّار أن هذه المصطلحات "مهمة بأن تُدرَس من خلال شعر الشاعر نفسه، ومن خلال أشعار غيره أيضا، كما هو الحال مع مصطلح المعاودة، الذي درستُهُ كاملًا في كتابي عنه، وأشرت إليه في هذه الدراسة."
ويرى بكّار أن عبد المنعم الرفاعي كان مسكونا بهاجس "التثقيف" في بداياته، ثم بهاجس "المعاودة" لاحقا؛ إذ كان يصبو دومًا إلى مزيد من التجويد الفني، ويتطلّع إلى مستوى أعلى وأرحب مما يسميه هو "الاستواء الفني"، أو ما يعبّر عنه بمصطلح "القدرة الأدبية والإبداعية".
وكان الرفاعي حريصا على العودة إلى شعره في مرحلتي الشباب والجامعة، ذلك الشعر الذي لم يكن راضيا عنه تمام الرضى من حيث تلك القدرة الأدبية والإبداعية، فكان يعاود النظر فيه، سعيا إلى التغيير، والتحسين، والتقويم. غير أنه وجد هذا المسعى مضنيا، فآثر تركه.
ويبين المؤلّف أن ديوان "المسافر" في الشعر، وكتاب "الأمواج" في النثر، يُعدّان من أهمّ ما خلّفه عبد المنعم الرفاعي، إذ يحكيان معًا سيرة الرجل إلى حدٍّ معقول. فـ"المسافر"، الذي حمل الديوان اسمه من عنوان أولى قصائده، قال عنه الرفاعي إنّه "استعارة لصفة ذلك المسافر الذي قام برحلة الحياة، ووقف في أسفاره عند عدد من المحطّات على الطريق الطويل."
إنّه، كما يوضح بكّار، سيرة لجزء من حياته الخاصة والعامة، وقد وُصفت القصيدة تحديدًا بأنها "مسيرة الحياة"، حياة الشاعر الخاصّة في الأغلب.
ويشير بكار إلى ما قاله الرفاعي بإنه نظم هذه القصيدة عام 1958، واستغرق نظْمها ستة أشهر، مشيرا إلى أنها "تمثّل حواره مع نفسه، بما دخله من مؤثرات خارجية كان لها انعكاسها في الإحساسات الذاتية للشعر." وهي قصيدة من "الطراز الوجداني"، يتجلّى ذلك بوضوح في المقطع الثالث منها، بعد "المعاودة"، حيث تلفّه الذكرى التي لا تخلو من ألم:"كيف أنسى، وفي يميني المُعنّى، أثرُ النارِ، وانطلاقُ الحديد؟ نمْ هنا، طالَ مدًى ومثارٌ، هذهِ رقدةُ الجريحِ الطريد.
تتناول الدراسة الرابعة الأديب يعقوب العودات، المعروف بـ"البدوي الملثم"، والشاعر مصطفى وهبي التل "عرار"، وذلك من خلال كتاب العودات عرار شاعر الأردن، الذي يُعد أول كتاب يصدر عن عرار. ويُصنَّف هذا الكتاب ضمن مؤلفات العودات "الأصلية"، إذ عرف عرار عن قرب، وخالطه، واحتك بأصدقائه ومعارفه، ولم يدّخر جهدًا في جمع كل ما أمكنه من أخبار الشاعر وأشعاره، من خلال الاتصال بالمطلعين على سيرته، بل والسفر إليهم أيضا.
لقد بذل العودات جهدا مضنيا في تأليف هذا الكتاب، الذي يزخر بمعلومات وتفاصيل دقيقة عن الشاعر، الذي تعرّف إليه أول مرة في نيسان عام 1922، حين نزل ضيفًا على والد العودات في بيتهم بالكرك. وقد تطورت هذه المعرفة إلى صداقة دامت سبعة وعشرين عاما، وانتهت بوفاة عرار.
قيّد العودات كثيرا من خصائص الشاعر وسجاياه الشخصية، ونوادره، ومفارقاته، ودعاباته، ومواقفه الوطنية والقومية والإنسانية، كما أورد مقتطفات من رسائله إلى ابنه البكر وصفي. وأثبت أيضًا مطارحاته ومساجلاته الشعرية مع عدد كبير من شعراء الأردن والوافدين عليه من أصدقائه ومعارفه.
ويضمّ الكتاب مباحث موضوعية وفنية تتناول جوانب متعددة من شعر عرار، مثل التصوير الفني، والومضات الفلسفية، ونزعة التشاؤم. وقد ركزت دراسة الدكتور ناصر الدين الأسد (أو الدكتور بكّار، حسب المقصود) على هذا الكتاب، وعلى ما صدر عن الشاعر والمؤلف من "هفوات طفيفة" – كما يصفها الباحث – مستدركا هذه الهفوات، ومشيرا إلى أنها "أمر طبيعي في عالم التأليف والكتابة والإبداع".
تتناول الدراسة الخامسة كتاب المجمع العلمي العربي في الشرق (1341هـ/1923م – 1344هـ/1926م) للدكتور سمير الدروبي، عضو مجمع اللغة العربية الأردني، الذي كشف فيه اللثام عن حقيقة هذا المجمع، الذي أسّسه الأمير الراحل عبد الله بن الحسين عام 1923، واستمر ثلاث سنوات. وقد غابت هذه الحقيقة، كما يشير الدكتور بكّار، عن عدد من الباحثين الأردنيين وغير الأردنيين.
ولم تقتصر الدراسة على التعريف بهذا الكتاب الرائد، بل أضافت إلى فصوله إضافاتٍ تكميلية، استقتها من مصادر لم يتسنّ للمؤلف الاطلاع عليها. كما نبّهت إلى "هفوات طفيفة" تسلّلت إلى الكتاب، بهدف تداركها في الطبعات اللاحقة، على ما يؤكده الباحث.
تمحورت الدراسة السادسة والأخيرة حول كتاب حركة إحياء التراث في الأردن للدكتور محمد الدروبي، وهي في الأصل، وضح الدكتور يوسف بكار مقدمة كتبها لهذا الكتاب التأريخي القيّم، الذي يتناول حركة إحياء التراث في الأردن، وقد تتبعها المؤلف تتبعا استيعابيا دقيقا. ويرى فيه بكّار عملا "كاملا ووافيا"، حتى ليعد سفرا في بابه، ومصدرا مهما في دراسة حركة إحياء التراث في الأردن، لا تقلّ أهميته عن مثيلاته في بلدان الوطن العربي كافة.