مخصصات النواب الشهرية ليست حقاً للأحزاب*أ. د. ليث كمال نصراوين
الراي
تناقلت وسائل الإعلام خلال الفترة الماضية خبراً مفاده أن بعض الأحزاب السياسية تطالب بالحصول على المخصصات الشهرية التي يتقاضاها النواب الذين فازوا بعضوية مجلس النواب عبر القوائم الحزبية التابعة لها، وذلك على أساس من القول إن هؤلاء النواب قد وصلوا إلى البرلمان كنتيجة مباشرة للدعم الحزبي والتنظيمي الذي قدمته لهم تلك الأحزاب خلال العملية الانتخابية.
إن هذا الطرح يثير نقاشاً دستورياً حول العلاقة بين النائب وحزبه السياسي، إذ إن الأصل أن النائب، بمجرد فوزه، يمثل الأمة جمعاء ولو ترشح ضمن قائمة حزبية، لأن الانتماء الحزبي لا ينشئ صفة نيابية مستقلة، ولا يجوز أن يتحول إلى قيد على استقلال النائب. فالنائب، وإن كان حزبياً، يبقَ ممثلاً لجموع الشعب ابتداءً، وتظل صفته النيابية عامة غير قابلة للتجزئة أو التحويل، باعتبار أن الحزب وسيلة للوصول إلى المجلس لا مصدراً للصفة النيابية ولا بديلاً عن الإرادة الشعبية.
وانطلاقاً من هذا المفهوم، فإن ما يتقاضاه النائب لقاء قيامه بمهامه النيابية لا يشكل راتباً حزبياً، ولا ثمناً للدعم الانتخابي، ولا مقابلاً للحملات الإعلامية أو التنظيمية التي قد تكون الأحزاب السياسية قد اضطلعت بها قبل الانتخابات، وإنما هو حق مالي مقرر للعضو بحكم القانون، مقابل أداء وظيفة دستورية عامة يمارسها النائب باسم الشعب ولحسابه، في إطار الديمقراطية التمثيلية.
وقد حسم المشرّع الأردني هذه المسألة بصورة صريحة، حيث نصت المادة (2) من قانون مخصصات أعضاء مجلس الأمة رقم (17) لسنة 1947 على أن ما يتقاضاه أعضاء مجلس الأمة يُعد مخصصات لا رواتب. وهذا التعبير التشريعي ليس توصيفاً شكلياً، بل يعكس إرادة دستورية واضحة في التمييز بين الراتب بوصفه مقابلاً لعلاقة وظيفية أو تبعية إدارية، وبين المخصصات بوصفها حقاً مالياً مرتبطاً بعضوية سلطة دستورية مستقلة، بصرف النظر عن الخلفية السياسية، يُقصد به تمكين العضو من أداء مهامه وضمان استقلاله في ممارسة وظيفته النيابية.
ويتعزز هذا الفهم بما جاء في القرار التفسيري للمحكمة الدستورية رقم (2) لسنة 2014، بأن أعضاء مجلس الأمة لا يُعدّون موظفين عموميين، وأن ما يتقاضونه ليس رواتب بالمعنى القانوني، وإنما مكافآت أو مخصصات شهرية مقررة بحكم عضويتهم الدستورية، الأمر الذي يترتب عليه عدم استحقاقهم لرواتب تقاعدية. وهذا الاجتهاد الدستوري الحاسم يكرّس الطبيعة الخاصة للمركز القانوني للنائب، ويقطع أي محاولة لإخضاعه لمنطق الوظيفة العامة ابتداءً، أو لإقامة أي علاقة تبعية مالية بينه وبين أي جهة أخرى.
ولا يغيّر من هذه الحقيقة القول إن النائب قد وصل إلى البرلمان عبر قائمة حزبية، أو بفضل حملات إعلامية وتنظيمية موّلتها الأحزاب السياسية؛ فهذه الاعتبارات – على فرض صحتها – تندرج ضمن إطار العلاقات الخاصة بين الحزب ومرشحيه، وهي علاقات يمكن تنظيمها، إن أُريد، في نطاقها المدني الخاص قبل الانتخابات وبصورة صريحة، لكنها لا تنتقل بحكم اللزوم إلى مرحلة ما بعد اكتساب الصفة النيابية، ولا يجوز أن تُفرض نتائجها على المال العام أو على المركز الدستوري للنائب.
كما أن الادعاء بأحقية الحزب في مخصصات النائب يفضي إلى نتائج خطيرة تمس جوهر النظام النيابي، إذ يفتح الباب لفكرة التعاقد على الوظيفة النيابية، ويحوّل النيابة العامة إلى التزام مالي تجاه جهات خاصة، وهو ما يتعارض مع مبدأ استقلال النائب، ومع القاعدة الدستورية المستقرة التي تحظر التفويض الإلزامي، وتمنع تحويل الامتيازات أو الحقوق المالية المقررة للوظيفة الدستورية إلى الغير.
ويزداد هذا الرأي رسوخاً في ضوء التعديل الدستوري لسنة 2022، حيث نصت المادة (76/3) بحلتها المعدلة على أنه إذا قرر مجلس النواب زيادة مخصصات العضوية، فإن سريان هذه الزيادة يبدأ اعتباراً من المجلس النيابي التالي. فهذا الحكم الدستوري يكشف بوضوح عن الطبيعة القانونية للمخصصات النيابية بوصفها حقاً ملازماً لعضوية مجلس النواب ذاتها، ومقرراً لشخص العضو، لا للحزب الذي ينتمي إليه. إذ لو كانت هذه المخصصات تعود للأحزاب أو تمثل مورداً حزبياً غير مباشر، لما كان ثمة معنى لتقييد سريان الزيادة بالمجلس اللاحق، ولما توجه الخطاب الدستوري إلى مخصصات العضوية بوصفها حقاً شخصياً للعضو، لا يجوز له الانتفاع بزيادته في المجلس الذي قررها.
كما أن قبول فكرة أحقية الأحزاب في مخصصات النواب يفتح الباب لمطالبات أشد خطورة، كأن تدّعي عشائر أو جهات اقتصادية أو ممولو الحملات الانتخابية حقهم في جزء من هذه المخصصات بذريعة الدعم أو التمويل، الأمر الذي يشكل مساساً خطيراً بنزاهة الحياة النيابية، ويقوّض فكرة النيابة الحرة، ويحوّل المال العام إلى أداة لتسديد التزامات سياسية سابقة على الانتخاب.
خلاصة القول، إن المخصصات النيابية حق دستوري وقانوني ملازم لعضوية مجلس الأمة، مقرر لضمان استقلال النائب وحسن أدائه لوظيفته العامة، ولا يجوز إخضاعه لأي مطالبة حزبية أو التصرف به خارج الإطار الذي حدده الدستور والقانون. أما تعزيز الدور الحزبي والانضباط السياسي، فيبقى رهناً بالأدوات السياسية والتنظيمية المشروعة، لا بالمساس بالمخصصات التي تمثل أحد ضمانات النيابة الحرة.