عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Aug-2025

في ذكرى محمد شاهين.. قامة أدبية ثقافية لا ترحل

 الغد-عزيزة علي

 نظم مركز "تعلم واعلم" للأبحاث والدراسات ندوة بذكرى وفاة الأكاديمي الدكتور محمد شاهين، وذلك في مقر رابطة الكتاب الأردنيين.
أقيمت الندوة، أول من أمس، وأدارها الدكتور أحمد ماضي، وشارك فيها كل من الدكتور محمد عصفور والدكتور إبراهيم خليل.
 
 
وأشار المشاركون في الندوة: "في حضرة الغياب، تتفتح ذاكرة الأرواح على حدائق اللقاء الأول، فنرى وجوه الأحبة كما لو كانوا بيننا، ونسمع أصواتهم تتردد في أروقة القلب. اليوم، نلتقي لنحتفي برحلة حياة امتلأت بالعطاء، ونكرم قامة غادرتنا جسدًا، لكنها باقية أثرًا ونورًا".
وأضافوا أن محمد شاهين المثقف الذي جمع بين رهافة الأديب وصرامة الباحث، وبين سعة الأفق ودفء القلب؛ رجل عبر بالكلمة حدود الجغرافيا، فصار جسرا حيا بين الشرق والغرب، وأضاء بعلمه وأخلاقه دروب أجيال من القراء والباحثين. إننا إذ نذكره اليوم، فإنما نعيده إلى مجالسنا حيا، في دفء الحكاية، وفي صدق الوفاء.
وقال الدكتور محمد عصفور "لم يخطر ببالي أنني سأقف في يوم من الأيام، في موقف المؤبن أو المعزي بوفاة صديق العمر الذي دامت هذه الصداقة، سبعين سنة. كان شاهين بقدر ما يبدو عليه موفور الصحة، كثير النشاط، مشغولا دائما بمشاغل الوظيفة التي نذر لها نفسه، وهو الباحث والمدرّس، المشرف على رسائل الطلبة، والمزارع الذي لا يبيع منتجات زراعته، في بيته بضاحية إسكان الجامعة. ولا مزرعته الكائنة في "غور الأردن"، بل كان يوزع هذه المنتجات على أصدقائه لأنه رجل يحب العطاء".
ويضيف "تعرفت على محمد شاهين العام 1979 في الجامعة الأردنية. كان قد حصل على درجة الماجستير من جامعة كولورادو العام 1964، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة كامبريدج، العام 1974. وقد قضى بعض الوقت في التدريس قبل التحاقه بالجامعة الأردنية".
ثم تحدث عصفور عن بعض صفات شاهين؛ حيث قال "تميز شاهين بقدرته على تكوين الصداقات وبناء علاقات طيبة مع زملائه وأساتذته. وأعرف أنه كوّن علاقات مع بعض المشاهير في كامبريدج، مثل الروائي (E. M. Foster) "ي. م. فوستر"، والناقد المعروف "ريموند وليمز". كما ارتبط بعلاقات مع بعض الشخصيات البارزة من خارج الجامعة، مثل المفكر إدوارد سعيد، وعالم اللغويات والفيلسوف نعوم تشومسكي".
كما أشار عصفور إلى تعرف شاهين على الناقد الأدبي الأميركي وأستاذ جامعة "كلينث بروكس"، ومن خلال هذه العلاقة، تمكن شاهين من دعوته للمجيء إلى الجامعة الأردنية وإلقاء بعض المحاضرات فيها على مستويي البكالوريوس والماجستير، ثم اصطحبه هو وزوجته في زيارة إلى سورية.
هذه القدرة على تكوين العلاقات في المحيط العربي تجلت في صداقاته العديدة مع الكتاب والنقاد، مثل علاقته بمحمود درويش، والمرحوم إحسان عباس، وناصر الدين الأسد، وكثيرين غيرهم.
أما في مجال الكتابات والأبحاث العلمية، فقال عصفور "إن شاهين ترك عددا من الكتب باللغتين العربية والإنجليزية. ولعلكم تذكرون أن رئاسته لتحرير "المجلة الثقافية"، التي تصدرها الجامعة الأردنية قد ارتقت بالمجلة، وذلك بفضل علاقاته الواسعة مع المفكرين العرب والأجانب، حتى أصبحت المجلة أقرب إلى الدورية البحثية منها إلى المجلة الثقافية بالمعنى المتداول".
وقدم الدكتور إبراهيم خليل ورقة بعنوان "محمد شاهين الفارس الذي ترجل"، وهي عبارة عن كلمة وفاء للصديق الراحل محمد شاهين، الذي غادر في 30 حزيران (يونيو)، بعد صداقة بدأت العام 1974 بفضل القاص خليل السواحري، وامتدت حتى صارت أخوّة فكرية وإنسانية.
وأضاف خليل "كنا نلتقي بانتظام أيام الجمعة من كل أسبوع في منزل الراحل إحسان عباس، في لقاءات عفوية كثيرا ما كانت تتحول إلى ما يشبه الندوة. وفي بعض هذه اللقاءات، اكتشفت ولعه بشعر محمود درويش وشخصيته، واهتمامه بكل ما ينشر عنه من دراسات ومقابلات وترجمات.. ازدادت قناعتي بهذا التعلق حين استمعت إليه في محاضرة أقيمت في ذكرى رحيل درويش؛ إذ كان جلّ ما قاله بوحا يكشف عالم الشاعر الداخلي. أما ترجماته لشعره أو ما كتبه عن قصيدته فرس الغريب في كتابه القيم الأدب والأسطورة، فكانت دليلًا آخر على هذا الحب".
وفي تلك الندوة، كان الحديث عن الجانب الغنائي في شعر درويش، مركزا على الموسيقا المتجلية في لغته. فخالفني شاهين، مميزًا بين Lyrical وSinging، رغم أن درويش، حتى في رأيه هو، يرى ألق شعره في موسيقاه، دون أن تحجب تلك الموسيقا ما فيه من تأملات وبنى درامية مركبة.
أما الطيب صالح، فقد ظل شاهين مفتونًا بعالمه، باحثًا في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، ومقارنًا بين ما فيها وبين نصوص لستاندال، وجوزيف كونراد، وإميلي برونتي، وروديار كبلنغ، وإدوارد مورغان فورستر، فضلًا عن مقارنات مع بعض الروائيين العرب، كتوفيق الحكيم في "عصفور من الشرق". وقد وصف إحسان عباس كتاب شاهين بأنه إضافة ثرية للأدب العربي المقارن والنقد الأدبي.
كما اهتم شاهين بالدكتور حسام الخطيب، وأسهم في إصدار كتاب تكريمي للخطيب بمناسبة بلوغه السبعين، واهتم كذلك بإدوارد سعيد، فترجم عنه مقالات عديدة وجمعها في كتاب صدر في بيروت، واعتبره "قصة للأجيال".
ومن الأدباء الذين أولوا اهتماما بالراحل أمين شنار؛ على دوره في الحياة الأدبية شعرا ونثرا، إذ بعد وفاته بسنة، سألني شاهين إن كنت أمتلك نسخة من ديوان شنار "المشعل الخالد"، فقد أعياه البحث عنه، فأخبرته بوجوده لدي، فاستعاره، واشترط عند إعادته أن تقام ندوة لإحياء ذكراه. وقد كانت تلك الندوة مناسبة لكشفه سر قصيدة "سماء"، وهي ليست من قصائد "المشعل الخالد"، بل من القصائد التي كتبها شنار بعد فراق فتاة أحبها وغادرت لدراسة الطب في دمشق.
ثم تحدث خليل عن اهتمامات شاهين بالأدب الرفيع؛ حيث تركز اهتمامه على الأدب الراقي، فإلى جانب من ذكرناهم، كان معجبا ببدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وتوماس إليوت، كما اهتم برشاد أبو شاور وغسان كنفاني، خاصة روايتيه "رجال في الشمس" و"ما تبقى لكم"، فالأولى تعد من أنجح روايات كنفاني التي ختمها بسؤال "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟"، وحسب رأي الناقد فيصل دراج، ولو جعلهم يدقونها لفقدت الرواية أثرها الفني.
وفي كتابه "آفاق الرواية: البنية والتراث"، توقف طويلًا عند ما تبقى لكم، فوجد فيها ظلالًا من الصخب والعنف لويليام فوكنر، ومن صورة الفنان في شبابه لجيمس جويس، ومن ماكبث لشكسبير، إضافة إلى أصداء من إزرا باوند، وديفيد هربرت لورنس، وكونراد في قلب الظلام.
ورأى خليل أن شاهين كان واحدا من ثلاثة عرفتهم يحرصون على التدقيق فيما يكتبونه بالعربية رغم تخصصهم في اللغات الأجنبية؛ إلى جانبه كان محمد عصفور وعصام الصفدي الذي كان شغوفا بشعر درويش، وكان شاهين يضيق ذرعا بأي خطأ لغوي أو نحوي، حتى في التفاصيل الصغيرة.
وخلص خليل إلى أن كل هذه المواقف، وغيرها، تكشف انحيازه الدائم للكتابة الجيدة، وحرصه على الضبط والإتقان، في زمن كثر فيه المتطفلون على اللغة والأدب.
من جانبه، تحدث صاحب دار الفينيق للنشر والتوزيع، مالك العالول، الذي قام في الآونة الأخيرة بطباعة بعض مؤلفات شاهين، فقال إنه تعرف عليه للمرة الأولى في معرض عمان الدولي للكتاب العام 2018، وذلك عبر الدكتور إبراهيم السعافين. وكان يومها يبحث عن رواية "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة" للكاتب محمد شعير، إذ كان مقررا أن يلقي محاضرة عنها على هامش المعرض. وأضاف العالول "أنه منذ ذلك اللقاء، نشأت بيننا صداقة وثيقة، تعززت بالزيارات المتبادلة وبأحاديث لا تنقطع عن الثقافة والأدب. وكان له فضل كبير في توسيع آفاقي الثقافية، إذ قدمني إلى نخبة من كبار الكتاب والمفكرين والنقاد العرب، وجعل من كل لقاء معه نافذة على عوالم جديدة". ولم تلبث هذه الصداقة أن اكتسبت بعدًا مهنيًا، حيث تشرفت بنشر ثلاثة أعمال له، كان آخرها كتاب "آفاق الرواية (البنية والمؤثرات)"، وهو دراسة نقدية.
لقد كان شاهين رجلا نذر حياته للثقافة والأدب، وجسرا حيا يصل الشرق بالغرب. كان إنسانا محبا، كريم العطاء، واسع الأفق، جمع حوله القلوب قبل العقول. و"ها أنا اليوم أقف أمامكم مؤبّنًا قامة رحلت جسدًا، لكنها باقية أثرًا وروحًا في ذاكرة الثقافة العربية، وفي وجدان كل من عرفه واقترب من نبله".