عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Jun-2022

مهاجرون إلى يوتوبيا مستحيلة* علاء الدين أبو زينة

 الغد

جاء في الأخبار يوم الثلاثاء: «عُثر على 46 شخصاً على الأقل قضوا في شاحنة مهجورة في ضواحي مدينة سان أنطونيو بولاية تكساس الأميركية. وقال مسؤول في الإطفائية إن 16 شخصاً، بينهم أربعة أطفال، نقلوا أيضاً إلى المستشفى. وكانت حرارة الناجين مرتفعة ويعانون من أعراض ضربة الشمس والإنهاك الناجم عن الحرارة. وتُعتبر مدينة سان أنطونيو، التي تبعد 250 كيلومتراً عن الحدود المكسيكية- الأميركية، طريق عبور رئيسية لمهربي البشر. ويستخدم مهربو البشر في الغالب الشاحنات لنقل المهاجرين الذين لا يملكون أوراقاً ثبوتية بعد أن يلتقوا بهم في مناطق نائية حالما يتمكنون من عبور الحدود إلى الولايات المتحدة».
تبدو القصة مألوفة جداً لمن قرأ رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس». هناك أيضاً، مات المهاجرون الفلسطينيون الذين كانوا يبحثون عن المستقبل عن طريق تهريبهم من العراق إلى الكويت في شاحنة صهريج. ولم يدقوا جدار الخزان عندما عطلت شرطة الحدود مهرب البشر سائق الصهريج، أبو الخيزران، في النقطة الحدودية. ربما دق المهاجرون اللاتينيون جدران الشاحنة ولم يسمعهم أحد في الطرق الأميركية الطويلة الموحشة. وربما لم يدقوا الجدران أيضاً، تعلقاً بأمل الوصول إلى الأمان المتخيل قبل النفس الأخير.
وثمة مهاجرو البحر، الذين تبتلعهم أمواج المتوسط، أحياناً عندما يكون الشاطئ الآخر على مرمى النظر. ومهاجرو البر الذين يقتلهم البرد عند أسيجة الحدود الأوروبية. وهناك الذين يُستعبدون ويُعذبون في مراكز احتجاز محاولي اللجوء في شمال إفريقيا. ويبدو أن جزءًا كبيراً من البشرية أصبح في حالة هجرة أو عيش على أمل الهجرة –غالباً في اتجاه ذلك الجزء من العالم الذي شارك بهمّة في صنع الشروط الطاردة التي جعلت عيش الناس في أوطانهم لا يُطاق.
في الجزء الأول من رباعيته الروائية/ الوثائقية الهائلة، «المهاجرون»، يسرد الكاتب السويدي فيلهلم موبيرغ قصة مواطنيه الذين هاجروا إلى أميركا الشمالية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد هاجر هؤلاء لمختلف الأسباب القاتمة: الجفاف وتلف المحاصيل، والجوع والفقر، والاضطهاد الديني والسياسي. ويصف الروائي الرحلة القاسية بالغة الخطورة في عنابر سفينة شراعية مكتظة طوال أشهر بين الأنواء. وفي الطريق، يموت مَن يموت ويعاني مَن يعاني من القذارة والأمراض والعواصف قبل الوصول مُعدماً ومنهكاً إلى شاطئ مجهول.
المفارقة أن نسل هؤلاء المهاجرين الأوروبيين الهاربين إلى «العالم الجديد» هم الذين أصبحوا الآن «التفوقيين البيض»، أسياد «العالم الحر» الذين يكشفون عن نزعات عنصرية في الداخل والخارج. ولأنهم هم الذين يحكمون، فإنهم يساهمون –أكثر أو أقل- في خلق نفس الظروف الطاردة في مختلف الأوطان في العالم. وإذا لم يكونوا طرفاً في حرب غير متناسبة ضد الضعفاء، فإنهم يصنعون لهم الحروب الأهلية، والصراعات الإقليمية، أو الظروف المحلية القاهرة بدعم أنظمة الاستبداد والرعاية والمحسوبية، حيث تستأثر القلة في أعلى الهرم بالثروة والسلطة ويعيش البقية في ضنك.
يحاول المهاجرون الذين أرغمهم على المُرّ ما هو أمرّ منه أن يلتحقوا بالمركز الاستعماري صاحب «عبء الرجل الأبيض»، في محاولة نوع من «الصعود الطبقي» في الهرم العالمي. ولكن، في حين أنهم يقدمون عمالة تمس الحاجة إليها في تلك القارات، فإنهم يُحرمون من فرصة الاندماج والتعافي من مشاعر الغربة، ويرغَمون على الاختلاف -من موقع الدونية. وأصبحت فكرة التعددية الثقافية التي يشجعها الغرب نظرياً، مرفوضة. وهذا الرفض بالتحديد هو السطر الأول من برامج القادة الشعبويين الذين يصعدون في العالم الأول، على أساس معاداة المهاجرين.
في منطقتنا، هناك نوع من الهجرة نسميه «الاغتراب»؛ الذهاب وراء الرزق إلى الدول الغنية المحتاجة إلى العمالة. لكن هذا يسمى في التعبير غير المخفف «العمالة المهاجرة». وقد يكون البعض مهاجرين محظوظين لأنهم يجنون المال غير المتاح في أوطانهم. لكن الهجرة تنطوي في عمقها على اضطهاد، مادي أو نفسي. ويغلب أن تصاحب المعاناة حالة الهجرة والعيش في «الحيز الثالث» المختلق.
أصل الأشياء أن يكون التجوال في العالم اختيارياً، وأن يكون الوطن متاحاً كخيار أول للعيش المستقر الآمن في الحيز الأليف. لكن الكثير من الأوطان الآن مستلبة لا يكاد يعرفها أصحابها ولا تبدو لهم. وكأن البشرية في معظمها مغرّبة ومهجرة قسرياً في أي مكان، أو مشاريع مهاجرين إلى يوتوبيا مستحيلة.