التوجه شرقا.. أبعاد زيارة الملك إلى آسيا*حسن الدعجة
الغد
غادر جلالة الملك عبدالله الثاني أرض الوطن، السبت، متوجها إلى العاصمة اليابانية طوكيو، في مستهل جولة عمل آسيوية شاملة تشمل إضافة إلى اليابان كلًا من فيتنام وسنغافورة وإندونيسيا وباكستان. وأدى سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد، اليمين الدستورية نائبًا لجلالة الملك، بحضور هيئة الوزارة، في تأكيد دستوري معتاد يضمن استمرار العمل الحكومي والدستوري أثناء سفر جلالته. لكن أهمية هذه الزيارة تتجاوز البروتوكول الدبلوماسي، فهي تحمل في طياتها رسالة سياسية واقتصادية متكاملة تعكس توجهًا إستراتيجيًا جديدًا نحو الشرق.
في السنوات الأخيرة، أصبح العالم متعدد الأقطاب، ولم تعد العلاقات الدولية محصورة بين الشرق الأوسط والغرب، بل امتدت إلى آسيا، حيث تتسارع حركة الاقتصاد العالمي، وتتشكل تحالفات اقتصادية جديدة، وتبرز نماذج ناجحة في التنمية والنمو الصناعي والتكنولوجي. وهنا تظهر أهمية هذه الجولة الملكية التي تأتي في وقت تواجه فيه المنطقة تحديات سياسية وأمنية، بينما يسعى الأردن بوضوح إلى تنويع مصادر التعاون والدعم الاقتصادي، وتقليل الاعتماد على الأسواق التقليدية.
تبدأ الجولة في اليابان، وهي دولة تربطها بالأردن علاقات عميقة ومستقرة منذ عقود، وقد كانت طوكيو دائمًا داعمًا ثابتًا لعمان، سواء عبر الاستثمارات أو المساعدات التنموية. الزيارة تحمل في مضمونها ملفات اقتصادية واضحة أبرزها: جذب استثمارات يابانية جديدة، تعزيز التعاون في مجال الطاقة وخاصة الطاقة المتجددة، والبحث في مشاريع نقل ومياه، إضافة إلى دفع التعاون في مجالات التكنولوجيا والابتكار الصناعي. اليابان اليوم من أهم المستثمرين في مشاريع البنية التحتية الكبرى، والأردن يمتلك فرصة حقيقية لتوسيع شراكته معها خاصة في ظل قدرات الأردن في الطاقة الشمسية وإستراتيجيات التحول الرقمي.
ومن طوكيو إلى فيتنام، أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وبيئة صناعية جاذبة للمصانع العالمية. فيتنام لم تعد مجرد نموذج للتنمية، بل أصبحت بوابة تجارية نحو أسواق أكبر في جنوب شرق آسيا. ومن المتوقع أن تركز لقاءات جلالة الملك على فتح أسواق جديدة أمام الصادرات الأردنية، وتوقيع اتفاقيات تعاون في مجالات الصناعات الدوائية، والأسمدة، والخدمات اللوجستية. كما تمنح فيتنام الأردن فرصة لتجربة نموذج اقتصادي ناجح مبني على الإنتاج والتصدير، وهو ما يتناسب مع توجهات الدولة نحو تعزيز الصناعة الوطنية وتشجيع التصدير.
أما سنغافورة، فهي دولة لا تمتلك موارد طبيعية، لكنها أصبحت رائدة عالميًا في التكنولوجيا، والتعليم، والحوكمة، وإدارة الموانئ والخدمات المالية. زيارة سنغافورة تحمل بُعدًا إستراتيجيًا خاصًا، فالأردن يسعى للاستفادة من تجربتها في التحول إلى مركز إقليمي للمال والأعمال، خصوصًا في ظل المشاريع الاقتصادية والاستثمارية الجديدة التي تشهدها المملكة. التعاون مع سنغافورة سيفتح آفاقًا أمام الأردن للاستفادة من خبرات عالمية في الإدارة الحكومية الذكية، ما ينعكس على تحسين بيئة الاستثمار وتحسين الخدمات الحكومية.
وتأتي زيارة إندونيسيا لتضيف بعدًا سياسيًا وروحيًا، فهي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، وعضو مؤثر في منظمة التعاون الإسلامي ومجموعة العشرين. الحوار مع جاكرتا يتجاوز الاقتصاد إلى تعزيز التنسيق السياسي حول القضية الفلسطينية ودعم حقوق الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية. كما تحمل الزيارة أهمية في زيادة التبادل السياحي، خاصة سياحة الحج والعمرة، وتعزيز التجارة في المنتجات الزراعية والغذائية والمنسوجات.
وتختتم الجولة في باكستان، الدولة التي ترتبط مع الأردن بعلاقات أخوة وتعاون عسكري وتاريخي. لباكستان ثقل جيوسياسي كبير، وهي بوابة إلى جنوب آسيا، وتمتلك قدرات صناعية في المجالات الدفاعية والتقنية يمكن للأردن الاستفادة منها. الزيارة ستعزز التعاون الأمني والعسكري، وتفتح أبوابًا لتطوير التجارة البينية واستثمارات مشتركة في مجالات الزراعة وتكنولوجيا المعلومات.
تأتي هذه الجولة في لحظة دقيقة إقليميًا ودوليًا، حيث تعيش المنطقة توترات متصاعدة، وتبقى القضية الفلسطينية محورًا أساسيًا في السياسة الأردنية. التحرك شرقًا يعكس رسالة واضحة: الأردن ينفتح على العالم، ويوسع خياراته، ولا ينتظر الظروف بل يصنعها. إن بناء شراكات اقتصادية جديدة مع دول تمتلك تجارب تنموية ناجحة يعني استشراف المستقبل، وإيجاد بدائل اقتصادية أكثر استقرارًا واستدامة.
من زاوية أخرى، تشكّل الجولة تعزيزًا لمكانة الأردن الدولية، وإبرازًا لدوره المحوري في استقرار المنطقة. إن الدول التي يزورها جلالته ترى في الأردن نموذجًا للاعتدال والحكمة السياسية، وفاعلًا قادرًا على بناء جسور بين الشرق والغرب، وبين العرب وآسيا.
خلاصة القول، التوجه شرقًا ليس مجرد رحلة عمل، بل هو رؤية إستراتيجية تؤكد أن الأردن يملك القدرة على تحويل الجغرافيا إلى فرصة، والموقع إلى قوة، والعلاقات الدولية إلى محرك للنمو الاقتصادي. إنها خطوة على طريق تعزيز استقلال القرار الاقتصادي، وتوسيع الشراكات، وتثبيت مكانة الأردن إقليميًا وعالميًا.
وبينما يؤدي سمو ولي العهد واجباته الدستورية نائبًا لجلالة الملك، يمضي الأردن بثقة نحو مرحلة جديدة تقوم على الانفتاح والتنوع والتوازن في علاقاته الدولية، بما يخدم مصالح الوطن والأجيال القادمة.