عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Nov-2025

"رسالة اللاغفران": قراءة فكرية في أسئلة الهوية والثقافة والسياسة

 الغد-عزيزة علي

 يقدم الشاعر والكاتب السوري حسام الدين محمد، في كتابه الجديد "رسالة اللاغفران: نقد ثقافي على تخوم مضطربة"، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، قراءة فكرية متشابكة في أسئلة الهوية والثقافة والسياسة. في هذا العمل، يواصل المؤلف رحلته الممتدة من دمشق إلى الغرب، باحثا في تداخل الجغرافيا بالمعرفة، وفي أثر التاريخ والاستبداد والاغتراب على الوعي العربي المعاصر.
 
يجمع الكتاب بين التأمل والسيرة والنقد، متوغلا في العلاقات الخفية بين الظواهر الثقافية والاجتماعية التي تصوغ حاضر الإنسان العربي وتحدد موقعه في عالم مضطرب.
يتحدث المؤلف، في مقدمته، عن رحلته من دمشق إلى بريطانيا، مستعيدا بداياته في مطبعة والده "دار العلوم"، التي تأسست في أواخر ستينيات القرن الماضي قرب محطة الحجاز في قلب دمشق؛ تلك البقعة التي كانت ملتقى طرق بين الحلم العربي بالوحدة، وجامعة دمشق، وخط المواصلات الممتد نحو بيروت.
يقول محمد إن والده اختار له، عن قصد، كما يحب أن يظن، طريق الطباعة الذي شكل ملامح حياته، فكانت رائحة الحبر الممزوجة بصفاء الورق أول بوابة لعالم الحروف والمعرفة. ومن تزاوج الحبر والكلمة انطلقت مسرّات حياته وآلامها.
ويعترف أنه ظل يعيش على حنينه لتلك الزاوية في المطبعة، حيث تتحرك الصفائح والأسطوانات لتلد الكتب والدواوين والدفاتر، وتوقظ فيه حلم المعرفة الذي كان بداية رحلته الطويلة في الحياة.
يروي المؤلف تجربة مبكرة من طفولته حين جازف والده بأن يعهد إلى طفل في الثامنة بالعودة وحده من المطبعة في الحلبوني إلى منزل العائلة في الثريا، عند أطراف حي الميدان، بوابة دمشق نحو جبل حوران والسويداء والقنيطرة، ومن ثم إلى الأردن وفلسطين والجزيرة العربية. غير أن الصبي شردت به الحافلة إلى منطقة "القدم"، هناك، بدأت أولى دروس التيه والفقد والمغامرة، وتجربة العودة إلى الذات والبيت.
ويشير محمد إلى أن الرحلة شكلت جوهر حياته، إذ هي مجاز للتعلم والتحول، يستند فيها إلى مقولة النفري "في المغامرة جزء من النجاة"، وعلى هديها كان يتبع نجم الصحراء ويقيس طريقه بأسطرلاب داخلي يقوده عبر بحر الظلمات.
تتداعى الأحداث بعد ذلك مع انتقال العائلة إلى بيروت حين كان في التاسعة، تاركين وراءهم عالم دمشق المحافظ إلى فضاء بيروت الليبرالي المزدهر، حيث أسست الأسرة مطبعة جديدة.
وهناك، واجه الطفل معاني الغربة والفقد والتيه في مدينة تموج بالصراعات الطائفية والسياسية، ولامس وجه الموت أكثر من مرة. ومع مطلع المراهقة، شهد انفجار الحرب الأهلية، فوعى باكرا وجوه الخراب التي ستتكرر في المدن العربية، وتفتح وعيه على جراح المعنى والكلمة، وأعطاب التاريخ ومعضلات الجغرافيا.
كان قدر الأب، بحسب محمد، أن يوجه بوصلة ابنه نحو عوالم الحرف والكتاب، فقادته دروبه إلى أماكن تصنع فيها الكتب أو تباع أو توزع. بدأ الأمر في شارع ابن منظور، حيث افتتح والده مطعما صغيرا قرب مستودع لتوزيع المجلات المرتجعة، ثم مخزن لدار الفكر اللبنانية. هناك انفتح الطفل على كنوز الورق، قبل أن يعمل في محل بوسط بيروت تُنضَّد فيه الكتب، ويشهد حرص جورج طرابيشي وهو يصحح ترجماته لسيغموند فرويد.
وعند عودته إلى دمشق أثناء اجتياح بيروت العام 1982، عمل في توزيع الكتب والمجلات، ثم في تنضيدها قرب ساحة المرجة، قبل أن ينتقل إلى نيقوسيا القبرصية، حيث شارك في مشروع لتنضيد الكتب والمجلات الفلسطينية، وتعرف هناك إلى كتاب وصحفيين كبار، مثل سليم بركات وحسن البطل. من قبرص انتقل إلى ليماسول سكرتيرا لتحرير مجلة "شهرزاد الجديدة"، ثم إلى لندن محررا في "القدس العربي"، حتى تولى إدارتها التحريرية.
قادته هذه التجارب، وهو في أواخر العشرينيات، إلى هايدلبرغ الألمانية في أولى رحلاته إلى أوروبا، رحلة بدت في ظاهرها سياحة، لكنها كانت عودة روحية إلى الطفولة، إلى "دار العلوم" ومطبعة الأب، وإلى تلك الآلة القادمة من الغرب التي نفثت الحبر على الورق فأنجبت حياة كاملة من الحروف والأساطير.
يقول المؤلف إنه عاد مجازا إلى دمشق القديمة، إلى طفولة ظنها ضاعت إلى الأبد حتى يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. في غربته الطويلة بحث عن سمائه الأولى، عن شرقي تائه في الغرب، في مفارقة يتقاسمها كثيرون وتظل جوهر إشكالية الثقافة العربية الحديثة.
ومن قلب مصنع "هايدلبرغ"، العملاق، الذي تصنع فيه آلات الطباعة وتوزع إلى العالم، وجد نفسه مدفوعا بسحر غامض إلى "ممشى الفلاسفة" على ضفة نهر النيكار، حيث استحضر ذكرى الشاعر الألماني هولدرلين، ليبدأ من هناك فصل جديد في حياته الأوروبية.
ويضيف المؤلف أن القارة الباردة صارت وطنه الجديد، في شمالها الغربي، بريطانيا، طرف العالم القديم كما وصفها شاعر روماني، وهناك خضعت لغته وكتابته لصهر جديد، وانطلقت رحلته الطويلة نحو عودة مستحيلة إلى المكان والزمان الأولين.
وتتسع رحلاته لتغدو بحثا عن الامتداد السوري في العالم؛ ففي ولاية كيرالا الهندية يكتشف كنيسة سورية قديمة تعود جذورها إلى القرن الثامن الميلادي، وفي البرازيل يعثر على جالية شامية كبيرة، تقدرها الحكومة بثلاثة إلى أربعة ملايين شخص.
تتحدث موضوعات الكتاب عن استكشاف معمار دمشق المتشعب، بما فيه من أزقة ودهاليز ومشربيات وحدائق داخلية خفية، لكنها تمتد أيضا إلى خطوط العالم السريعة التي تصل المدن والقارات، حاملة البضائع والبشر والأفكار.
في هذا التداخل، تتقاطع الجغرافيات المعرفية لتجمع بين محطة الحجاز في دمشق، وممشى الفلاسفة في هايدلبرغ، وميدان الطرف الأغر في لندن، وكلها تفضي، في النهاية، إلى متاهة واحدة.
ويشير محمد إلى أن مضمون هذا الكتاب هو نسج من أسئلة مقلقة هي سداه، ومن إجابات تحاول مجابهة غيلان الواقع ومخاتلات الأيديولوجيا. والغاية من تلك المحاولات ليست إنهاء الحيرة، بل توسيعها، لتدفع القارئ إلى بحث أعمق في الأسئلة الفكرية المتفرعة من مشاغل الإنسان العربي، فردا وجماعة.
الكتاب يتناول بالنقد مجموعة من الظواهر التي تتقاطع فيها حدود الجغرافيا والاجتماع والثقافة والعلمانية والدين والجندر والسياسة، عبر مقالات تشدها خيوط خفية تربط بين هذه القضايا المتشابكة. يتتبع الكاتب أثر هذه الظواهر في الحاضرة العربية، كاشفا علاقات الماضي بالحاضر، وتناقضات الذاتي والعام، وأعطاب العمل الثقافي والسياسي وما يحيط به من إشكاليات معقدة.
يعكس غلاف الكتاب مسعى المؤلف إلى تتبع العلاقات الخفية بين الثقافة والمجتمع، من جذور تمتد إلى "المحكمة الباطنية" ذات الأصل الفرعوني التي كان المصريون يرفعون إليها شكاواهم، إلى خلاف المظلوميات الثقافية بين محمود درويش وسليم بركات، مرورا بصراع العلم والدين بين رمزي "قنديل أم هاشم" و"هدهد ماركس"، وانتهاء بانحيازات المثقفين ذات الجذور الطائفية، وفهم الحجاب بين فاطمة المرنيسي وفراس السواح، وصولا إلى مفارقة تولي محمد الماغوط رئاسة تحرير مجلة "الشرطة" السورية.
ويتحدث الكتاب عن مظاهر الاستقطاب الثقافي والسياسي التي تمزق المجتمعات العربية وتنعكس في وعي مثقفيها ونخبها، فتقضي على التسامح والتواد، وتخلف أعطابا عميقة في البنية الثقافية. يرى الكاتب أن المهمة الكبرى للنقد هي الاشتباك مع الإشكاليات الواقعة على حدود العالم الحقيقية والمتخيَّلة، بوصفها عملا ذاتيا وجمعيا في آن. ولتشريح تلك التوترات، يتناول قضايا لافتة، مثل مصائر بنات الطيب صالح وعلاقتها بروايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، ولغز اختفاء أغاثا كريستي بعد اكتشافها خيانة زوجها، بما يعكس تداخل الخاص والعام في حياة المبدع والثقافة.