حتمية الانهيار.. قراءة في نبوءة إيان بابيه*إسماعيل الشريف
الدستور
أحكمت دولة يهوذا قبضتها على دولة إسرائيل، وبدأت بابتلاعها قطعةً بعد قطعة-إيان بابيه.
يحاور الصحفي الأمريكي الشهير كريس هيدجز، الحاصل على جائزة بوليتزر وأحد أبرز الأصوات المنتقدة للسياسة الأمريكية والصهيونية، المؤرخ اليهودي البارز إيان بابيه، أحد أهم العقول الأكاديمية في العالم. عمل هيدجز مراسلًا للحروب في الشرق الأوسط لدى صحيفة نيويورك تايمز، قبل أن يستقيل احتجاجًا على غزو العراق عام 2003. أما بابيه، فيقيم اليوم في بريطانيا بعد أن تعرّض لملاحقات سياسية وأكاديمية في الكيان الصهيوني بسبب مواقفه الجريئة.
يأتي هذا الحوار في أعقاب صدور الكتاب الجديد للمؤرخ إيان بابيه بعنوان «إسرائيل على الحافة»، والذي يناقش فيه فكرة أن المسار الذي تسلكه «إسرائيل» اليوم غير قابل للاستمرار، نتيجة تداخل الضغوط الداخلية والسياسية والعسكرية والدولية. ويرى بابيه أن هذا المسار سيقود حتمًا إلى تدهورٍ متسارعٍ ينتهي في نهاية المطاف بانهيار الكيان.
يكتب بابيه في كتابه قائلًا:
«قد يشبه السقوط المحتمل «لإسرائيل» نهايةَ جنوب فيتنام أي اختفاء دولةٍ بالكامل أو قد يشبه تجربة جنوب إفريقيا، حيث ينهار نظامٌ أيديولوجيٌّ قائم ويُستبدل بآخر. وأعتقد أن حالة إسرائيل ستشهد مزيجًا من هذين السيناريوهين، وذلك في وقتٍ أقرب مما يتصوره معظمنا أو يستعد له.»
في هذا الكتاب، يقدّم بابيه رؤيةً متكاملةً لانهيار الكيان، لا يطرحها بوصفها احتمالًا، بل مسارًا تاريخيًا حتميًا تدفع نحوه مجموعةٌ مترابطةٌ من العوامل السياسية والاجتماعية والعسكرية.
يرى بابيه أن الانهيار ينبع أولًا من التآكل الداخلي والانقسام المجتمعي. فـ»إسرائيل» لم تعد دولةً موحّدة، بل انقسمت إلى دولتين داخل دولة واحدة:
الأولى، إسرائيل القديمة، علمانية ليبرالية تقوم على فكرة «الديمقراطية لليهود»، والثانية، دولة يهوذا، دينية متطرفة يقودها المستوطنون وأتباع بن غفير وسموتريتش.
هذان التياران يجتمعان اليوم تحت وطأة الحرب، لكنّهما متنافران أيديولوجيًا وطبقيًا ودينيًا، وسيعود هذا التناقض إلى السطح بمجرد انحسار القتال، مؤديًا إلى تفككٍ داخليٍّ يشبه ما حدث في جنوب إفريقيا حين انهار نظام التفوق الأبيض من الداخل قبل سقوطه رسميًا.
أما العامل الثاني فهو التحوّل من الصهيونية السياسية إلى الصهيونية الدينية. فالصهيونية الأولى بقيادة بن غوريون وغولدا مائير كانت علمانية براغماتية، لكنها بعد احتلال الضفة الغربية واستيطانها تحوّلت تدريجيًا إلى صهيونية متدينة، ثم ظهرت الصهيونية الجديدة ذات الطابع المسياني التي ترى نفسها مكلّفةً بمهمةٍ إلهيةٍ لإحياء مملكة داود وسليمان. هذا التحول جعل الكيان أكثر انغلاقًا وتعصبًا، وبالتالي غير قادرٍ على الاستمرار في عالمٍ تحكمه العلمانية والقانون والشرعية الدولية. وفي هذا السياق يقول بابيه:
حين تذوب الدولة في العقيدة، تفقد قدرتها على التكيّف والبقاء.
ويضيف أن الإبادة تحوّلت إلى سياسةٍ رسمية. فمنذ نشأتها تمارس «إسرائيل» إبادةً ممنهجةً للشعب الفلسطيني، لكنها انتقلت من التطهير العرقي البطيء إلى الإبادة الجماعية السريعة في غزة. هذه السياسة، كما يرى بابيه، تكشف الوجه الحقيقي للكيان وتنزع عنه أيّ شرعيةٍ أخلاقيةٍ، مما سيؤدي إلى عزلةٍ دوليةٍ متزايدةٍ، فـعقوباتٍ، فـنبذٍ عالمي شبيهٍ بما واجهه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ويتحدث بابيه أيضًا عن الانقسام الطبقي والعرقي داخل المجتمع اليهودي، حيث ينقسم المجتمع الإسرائيلي بين الأشكناز (اليهود الأوروبيين) والمزراحيين (اليهود الشرقيين الذين جُلبوا من الدول العربية واستُخدموا لملء المستوطنات بعد عزوف الأوروبيين عن الهجرة). وبسبب ما تعرّضوا له من تهميشٍ وازدراءٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ، انضمّ كثيرٌ من المزراحيين إلى التيار الديني المتطرف. هذا التمييز يولّد احتقانًا اجتماعيًا متصاعدًا يجعل تماسك المجتمع هشًّا وقابلًا للتفكك عند أول أزمة.
ثم يأتي الإرهاق العسكري والاقتصادي، إذ بُني الجيش الصهيوني ليخوض حروبًا قصيرة هجومية، بينما تحوّلت حرب غزة إلى حرب استنزافٍ طويلةٍ استهلكت احتياطاته ومعداته وأضعفت جاهزيته. ويرافق هذا الإنهاك العسكري عبءٌ ماليٌّ ثقيل على اقتصادٍ صغيرٍ يعتمد على الدعم الأمريكي وصادرات الأمن والتكنولوجيا.
ويربط بابيه ذلك بـ تراجع الإمبراطورية الأمريكية، معتبرًا أن الكيان الإسرائيلي امتدادٌ للمشروع الأمريكي الإمبراطوري. ومع تآكل النفوذ الأمريكي نتيجة الانقسام الداخلي والفساد وتبدّل الأولويات، ستفقد «إسرائيل» مظلّتها الاستراتيجية والمالية. وعندما تضطر الولايات المتحدة إلى الانسحاب من الشرق الأوسط أو تقليص وجودها فيه، ستجد «إسرائيل» نفسها وحيدةً لأول مرة في تاريخها، تواجه مصيرها دون حماية راعيها الأكبر.
ويضيف بابيه أن العزلة الدولية وتبدّل المزاج العالمي من أبرز مؤشرات الانحدار. فكلما ازداد الكيان تطرفًا، ازداد عدد الدول والشعوب التي تراه نظامًا استعماريًا عنصريًا. كما أنّ حملات المقاطعة (BDS) مرشحة للتحول إلى عقوباتٍ حقيقيةٍ قد تفرضها دول كبرى، وربما تؤدي إلى طرده من مؤسساتٍ دوليةٍ مثل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم. وفي الوقت نفسه، بدأ اليهود الشباب في الغرب ينفصلون عن الرواية الصهيونية التقليدية، ما سيحرم الكيان من أحد أهم مصادر دعمه وشرعيته الأخلاقية في العالم الغربي.
أما على الجانب الفلسطيني، فيرى بابيه نهوض جيلٍ جديدٍ واعٍ ومتعلم قادرٍ على إحياء المشروع الوطني الفلسطيني بروحٍ عقلانيةٍ، عادلةٍ، وموحدةٍ. هذا الجيل لن يقبل بحلولٍ مجتزأة أو دولةٍ ناقصة، بل سيطالب بـ حقوقٍ متساويةٍ في وطنٍ واحد. ويؤكد بابيه أن هذا هو التحدي الأخطر الذي لن تستطيع «إسرائيل» مواجهته، لا سياسيًا ولا أخلاقيًا، لأنه يضرب في جوهر سرديتها ومبرر وجودها.
ويصل بابيه إلى ما يصفه بـ انهيار التوازن بين القوة والشرعية، فيقول:
إنّ إسرائيل تمتلك قوّةً لا تُقهَر، لكنها فقدت الشرعية التي تُبرّر استخدامها.
ويرى أن هذا هو جوهر السقوط الحقيقي؛ حين تتحول القوة إلى عبءٍ ينهك الكيان، ويغدو الدم لعنةً تطارده، وتصبح العزلة قدره المحتوم.
وفي رؤيته لمستقبل فلسطين، يؤكد بابيه أن النهاية لن تكون فراغًا، بل بداية مرحلةٍ جديدة، حيث تنشأ دولةٌ واحدةٌ يعيش فيها العرب واليهود على قدم المساواة، بعد سقوط المشروع الصهيوني وفشل الفكرة التي قامت على الإقصاء والتمييز، أي فكرة «دولة لليهود فقط.»
أدناه رابط الحوار الكامل لمن أراد الاستزادة.