الدستور
الانهيار لا يأتي دفعة واحدة، بل يحدث مثلما تتصدع الجدران؛ شق صغير، فآخر، ثم ينهار كل شيء دفعة واحدة-إلياس خوري، عن رواية باب الشمس.
يشهد الدولار تراجعًا ملحوظًا، ويُتداول على نطاق واسع مصطلح Dedollarization، أي الدولرة بمعنى تقليل الاعتماد على الدولار. لا أقول إن الدولار ينهار، لكننا قد نكون بالفعل أمام بداية مرحلة تراجع هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.
تراجع الدولار بنحو 9% من قيمته وفق مؤشر قوته أمام سلة العملات (اليورو، الين الياباني، الكرونا السويدية، الجنيه الإسترليني، والدولار الكندي)، وذلك في أعقاب إعلان الرئيس ترامب عن رفع الرسوم الجمركية على العديد من دول العالم، وإطلاقه شرارة الحرب الاقتصادية مع الصين. ورغم أن هذا القرار لم ينعكس فورًا على أسعار السلع، إلا أنه أحدث اضطرابات حادة في الأسواق والمؤشرات المالية. إلا أن الأثر الأعمق تمثّل في تآكل ثقة المجتمع الدولي بالدولار كعملة مرجعية مستقرة، وهو تطور استراتيجي قد يحمل تداعيات خطيرة على المدى الطويل.
لا يزال الدولار يتربع على عرش العملات العالمية، لكنه يشهد تراجعًا تدريجيًا. فعلى سبيل المثال، شكّل الدولار في عام 2001 نحو 72% من الاحتياطيات العالمية من العملات الأجنبية، إلا أن هذه النسبة انخفضت إلى حوالي 58% حاليًا، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي.
قد يشكّل قرار رفع الرسوم الجمركية نقطة انطلاق لسلسلة من الانهيارات المحتملة، إذ يُنظر إليه كعامل محفز لاضطرابات اقتصادية أوسع. وفي هذا السياق، قد يكون تراجع قيمة الدولار هو الحجر الأول في سلسلة الدومينو التي قد تُفضي إلى ضربات متتالية للاقتصاد الأمريكي، خاصة في ظل تصاعد مساعي العديد من الدول لتقليل اعتمادها على العملة الأمريكية في التبادل التجاري والاحتياطيات النقدية.
تعتمد الولايات المتحدة في تمويل عجزها على الاقتراض من خلال بيع سندات الخزينة، التي تشتريها دول ومؤسسات مالية عالمية تثق بقدرة الحكومة الأمريكية على سدادها في موعدها، مقابل عوائد (فوائد). وبهذا، تحصل الولايات المتحدة على قروض بتكاليف منخفضة نسبيًا. لكن تراجع قيمة الدولار وضعف الثقة في استقراره المالي يُقللان من جاذبية هذه السندات، ما يدفع المستثمرين للمطالبة بعوائد أعلى لتعويض المخاطر، فترتفع معدلات الفائدة، وتزداد كلفة الاقتراض على الحكومة الأمريكية. وقد تجلّت هذه الظاهرة بوضوح عند فرض الرئيس ترامب الرسوم الجمركية؛ إذ شهدت الأسواق تقلبات حادة، وتراجع الدولار، وصاحب ذلك ارتفاع في عوائد سندات الخزينة الأمريكية.
أدرك الرئيس ترامب خطورة تداعيات قراره، فتراجع مؤقتًا وأعلن تأجيل تنفيذ الرسوم الجمركية لمدة تسعين يومًا، بانتظار تدفّق قادة الدول إلى البيت الأبيض للتفاوض حول نسب الرسوم. وقد برّر هذا التراجع بالقول إن التأجيل كان جزءًا من خطته الأصلية، مؤكدًا أن الهدف الرئيسي من الإجراءات هو الضغط على الصين.
قرار ترامب، كما يُقال في التعبير الأمريكي، كان أشبه بـ»إطلاق النار على القدم»، إذ ارتدت تداعياته سلبًا على الاقتصاد الأمريكي ذاته. فتقييد التجارة يقلّل الطلب على الدولار، ويحفّز بعض الدول على التخلّص من احتياطاتها الدولارية، مما يؤدي إلى تراجع قيمته. وهذا بدوره يُضعف الثقة بسندات الخزينة، لأن استردادها بالعملات الوطنية عند موعد الاستحقاق سينتج عنه تحويل أقل من المتوقع. ولتعويض هذا الفرق، تُرفع العوائد على السندات لجذب المستثمرين، ما يرفع كلفة الاقتراض على الحكومة الأمريكية، ويؤدي لاحقًا إلى زيادة العجز المالي، وارتفاع معدلات التضخم، وبالتالي ارتفاع الأسعار داخل الولايات المتحدة نفسها.
من المسلم به أن الولايات المتحدة تستهلك أكثر مما تُنتج، وتعتمد على طباعة النقود دون غطاء مالي فعلي. ومع ذلك، فإن قوة الدولار لا تنبع فقط من مؤشرات الاقتصاد الكلي، بل من عوامل أخرى أهمها الهيمنة العسكرية الأمريكية، وثقة الدول في العملة الأمريكية، إضافة إلى ارتباط تسعير النفط عالميًا بالدولار فيما يُعرف بـ»البترودولار». هذه العوامل مجتمعة تُعزّز من مكانة الدولار كعملة احتياطية دولية، وتمنح الولايات المتحدة قدرة فريدة على استخدام عملتها كأداة لمكافأة الحلفاء ومعاقبة الخصوم، وهو من الأسباب الرئيسية التي تضمن استمرار قيادتها للنظام العالمي.
من المسلم به أيضًا أن الدينار الأردني مرتبط بالدولار الأمريكي، ما يعني أن أي تراجع في قيمة الدولار قد ينعكس سلبًا على الدينار. وعلى الرغم من أن التقارير الاقتصادية ومؤسسات التصنيف الائتماني تجمع على متانة الاقتصاد الأردني واستقراره، إلا أن هذا الارتباط يستوجب منا اتخاذ خطوات تحوطية، من بينها تنويع احتياطيات البنك المركزي لتشمل سلة أوسع من العملات، إضافة إلى الذهب والفضة، لتقليل أثر تقلبات الدولار.
أما بالنسبة لرجال الأعمال، فالنصيحة الأهم هي الاستثمار في الاقتصاد الوطني، من خلال شراء السلع وضخ الأموال في المشاريع الإنتاجية، بدلًا من اكتناز السيولة. وأما أنا وأنت، عزيزي القارئ، فلا نملك سوى مراقبة ما يحدث، ورفع أكفّنا إلى السماء، سائلين الله اللطف في ما هو قادم.
الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد مسار التصعيد الاقتصادي مع الصين، خاصة في ظل تهديدات ترامب بإقالة رئيس الاحتياطي الفدرالي. نحن أمام مفترق طرق: إما المضي قدمًا في مسار إزالة الدولرة، بما يحمله من مخاطر على الاقتصادين الأمريكي والعالمي، أو التوصل إلى تسوية تُعيد بعض الهدوء والاستقرار إلى النظام المالي الدولي.