الغد
هآرتس
بقلم: عودة بشارات
بعد الانقلاب في العراق في تموز 1958، اقترح رئيس الأركان في حينه حاييم ليسكوف على دافيد بن غوريون احتلال جزء من الضفة الغربية، لكن الأخير تردد. وقد كتب في مذكراته: "هذه المرة هم لن يهربوا".
أما الرغبة في احتلال الضفة الغربية، فكانت تقف أمامها اعتبارات مهمة. أولها الخوف من السيطرة على مليون عربي"، كتب ميخائيل بار زوهر، كاتب السيرة الذاتية لبن غوريون. بن غوريون شعر بخيبة الأمل عندما لم يهرب سكان غزة في حرب شبه جزيرة سيناء التي اندلعت قبل سنتين من ذلك، كما حدث في 1948. لكن رغم التقدير الكبير لـ"العجوز" من قبل ورثته الشباب، إلا أنهم كسروا كلمته، وفي حزيران 1967 قاموا باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وخوف بن غوريون تحقق.
بعد بضع سنوات كتب رئيس أركان تلك الحرب، إسحق رابين، الذي أصبح بعد ذلك رئيس الحكومة وقتل على يد يميني متطرف، في كتابه بعنوان "مذكرات الخدمة": "غوش إيمونيم هي ورم في جسد الديمقراطية الإسرائيلية".
بعد عام 1967 اجتاحت البلاد موجة نشوة، لا سيما فيما يتعلق بالمستوطنات. في النسخة السابقة، بعد إقامة الدولة، كان أبطال الاستيطان علمانيين وكتبوا على رايتهم شعارات الاشتراكية وأخوّة الشعوب.
بالطبع، تجاهلت الشعارات العرب الذين تمت مصادرة أراضيهم، وكثيرون اعتقدوا أن هذه القوة ستنتصر أيضًا على موجة الاستيطان الثانية هذه المرة في الضفة، لكن الواقع كان مختلفًا. فبدلاً من الطلائعيين وأصحاب الغُرّة الجميلة، تولى القوميون المتعصبون والمسيحانيون زمام المبادرة.
من جهة أخرى، الفلسطينيون، رغم فظائع الحرب، تمسكوا بأرضهم. فقد تعلموا شيئًا من نكبة 1948. هذا الأمر خلق معضلة أمام المحتلين الجدد، ومن أجل أن يظهروا بمظهر جيد فقد بدأوا يتحدثون عن احتلال متنور وجسور مفتوحة.
ولكن كما هو معروف، فإن الاحتلال لم يأتِ لإظهار وجهه الجميل، هدفه كان طرد أكبر عدد من الفلسطينيين وتوطين اليهود مكانهم. كون العرب غير مستعدين للمغادرة ليس المشكلة الوحيدة.
بن غوريون انتبه إلى موضوع لا يقل أهمية عن ذلك وقال إن "المشكلة هي النقص في اليهود، وليس النقص في المساحة".
ولكن المتعصبين الموجودين الآن على رأس هرم الحكومة لا يفهمون أقواله التي قالها قبل سبعين سنة. هم يريدون التوسع حتى نهر الليطاني، والنهمون منهم يريدون الوصول إلى النيل والفرات. كل هذه الشهية تستيقظ في الوقت الذي لا ينجحون فيه في إقناع الشباب اليهود (والعرب أيضًا) بالبقاء في الجليل.
المشكلة هي أنه لا يوجد زبائن للمستوطنات. الناس يبحثون عن مراكز حضرية تضج بالنشاط، بالأساس تل أبيب والمركز. الإسرائيليون الآن يتجمعون في مساحة تم تخصيصها لـ "الدولة اليهودية" في خطة التقسيم. اليهود الذين جاءوا من أوروبا، من قلب الحداثة في أوروبا، لا تجذبهم الضواحي.
لكن إذا كان يمكن تعزية النفس فلنقل إن هذه هي حال العالم. لقد طوت الدول العظمى راية الكولونيالية قبل ثمانين سنة، وحينها تذكرت الصهيونية رفعها. المثل العربي يقول: "رايح على الحج والناس مروحة". أين هي تلك الأيام، حيث كانت الجموع تحتفل بإقامة مستوطنة: رؤساء حكومات، ووزراء، ووجهاء، جميعهم كانوا يذهبون بملابس احتفالية لوضع حجر الأساس لمستوطنة معزولة.
ما الذي نراه الآن؟ زعران ملثمون، يحملون العصي، والمسدسات، وصهاريج الوقود والتراكتورات الصغيرة، يحرقون ويقتلون ويصيبون، ولا يوجد من يوقفهم، وإذا تم اعتقالهم فبعد فترة قصيرة يُطلق سراحهم. الدكتور شاؤول أريئيلي كتب بأن مشروع الاستيطان يوجد في "جمود عميق في أفضل الحالات، وفي خفوت سريع في أسوأ الحالات".
الآن الناس أصبحوا عقلانيين وهم لا يسارعون في الذهاب إلى هناك. ومشهد المستوطنين العنيفين هو الوجه الآخر لنهاية طريق هذا المشروع. المستوطنات لم تعد جذابة بل هي مصدر للخجل. يجب إغلاق البسطة بسرعة. هذا هو الأمر الملح الآن.