عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Apr-2025

بين الأندلس وغزة.. مساءلة الشعر للتاريخ والمصير

 الغد-عزيزة علي

 في سياق اهتمامه بإبراز المنجز الثقافي والإبداعي الأردني، نظم منتدى الرواد الكبار، بالتعاون مع جمعية النقاد الأردنيين، ندوة نقدية سلطت الضوء على التجربة الشعرية للشاعر والدكتور زهير توفيق، من خلال مناقشة ديوانه الأخير "محجر الدموع جف".
 
 
وقد حضر الندوة، التي أقيمت في مقر المنتدى يوم السبت، عدد من المهتمين بالشأن الثقافي، قدم فيها الدكتور سلطان المعاني قراءة معمقة للديوان، وأداره الروائي أسيد الحوتري. 
 
وجاءت هذه الندوة كجزء من سلسلة فعاليات التي تهدف إلى تعزيز الحوار النقدي، وقراءة النصوص الشعرية الحديثة، بوصفها مرايا تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية في العالم العربي.
رحبت مديرة المنتدى، هيفاء البشير، بالحضور في الندوة التي تناولت ديوان الدكتور زهير توفيق "محجر الدموع جف"، الذي يتزامن صدوره مع ما نشهده من قتل وتدمير تمارسه إسرائيل بحق أهلنا في غزة والضفة الغربية وسائر أنحاء فلسطين.
وأشارت البشير إلى أن الشعر الحقيقي هو ذلك الذي يعبر عن الواقع، وينقل صور المواجهة مع الحياة بجوانبها المختلفة، ليضع القارئ في قلب الحدث، ويدفعه إلى البحث عن إجابات للأسئلة الصعبة التي تفرضها هذه المرحلة العصيبة.
كما أكدت أهمية الوقوف والمواجهة في وجه هذا الغاصب الشرس، والعمل على التأثير في الرأي العام، وقدرة الشعر على إقناع الشعوب، مستذكرة كم من قصائد كان لها أثر بالغ في مجريات التاريخ.
قال الدكتور سلطان المعاني: "إننا أمام تجربة شعرية مغايرة، تتقاطع فيها الذاكرة بالتاريخ، وتتداخل المقاومة بالوجود، في نسيج لغوي ينبض بالألم والتحرق". 
وأضاف أن ديوان "محجر الدموع جف"، يحمل عنوانا موحيا مشحونا بالدلالة، إذ تنبني عبارته على مفارقة مضمرة بين امتلاء العين بالألم وجفاف الدمع في آنٍ واحد، وكأن الشاعر يعلن منذ العتبة الأولى أن الحزن في هذا الديوان لم يكتب ليبكى، بل ليروى، ليتحول الشعر إلى محجر آخر، لا يسكنه سوى صدأ البكاء المنكفئ.
يمضي الديوان في تشكيل بنيته عبر حركية شعورية تتنامى بنسق متدرج، ينتقل من النداء الرؤيوي في قصيدة الأندلس، إلى الخطاب الاحتجاجي الثائر في قصيدة غزة، وصولا إلى التأمل العبثي في صورة الجندي الذي فقد القدرة على الحلم. تتبدى هذه البنية من خلال تشظي الزمن داخل القصائد، فلا يتقدم النص بخط كرونولوجي خطي، بل بتوالد دلالي داخلي يعيد إنتاج الزمن عبر رموز ومجازات متراكبة، تحول القصيدة إلى بنية مفتوحة على التأويل.
يبدأ النص وفق المعاني بتفعيل وظيفة الذاكرة، عبر الاستدعاء التاريخي في قصيدة "فلتغسلوا قلبي برؤيا يا أهالي الأندلس"، حيث يبنى الخطاب على استحضار يتجاوز التوثيق إلى المساءلة. يتشكل الصوت الشعري هنا كصوت للضمير الجمعي العربي، يتكئ على الإيقاع البطيء، ويستمد رمزيته من المكان المفقود -الأندلس- لا بوصفه جغرافيا، بل أفقا حضاريا منهارا، مما يجعل القصيدة قائمة على استراتيجية التفكيك، وإعادة التخييل، واستدعاء الخسارة.
أما القصيدة الثانية، "غزة، يا أيها الخطباء، كفوا عن دمي"، فتتحول إلى مواجهة مباشرة مع الحاضر العربي، حيث تتخذ البنية الإيقاعية طابعا أكثر تصعيدا، وتميل الجملة الشعرية إلى القصر، والتكرار، والانفجار الصوتي. يكتسب النص هنا بعدا خطابيا حادا، إذ يحول الشاعر القصيدة إلى منبر احتجاج، لا يقف عند رصد الفاجعة، بل يتجاوزها لفضح البلاغة الفارغة للخطاب السياسي العربي. ويتحقق في هذا النص تحول من الرثاء إلى المقاومة، ومن التمركز الذاتي إلى صوت جمعي غاضب، حيث تتكامل الوظيفة الجمالية مع الوظيفة التوجيهية، لينفتح النص على خطاب تحريضي ضاغط.
في القصيدة الثالثة، "الجندي لا يحلم بالزنابق البيضاء"، تتراجع الشعارات، ويخفت ضجيج الجموع، ليظهر الجندي كنقطة التقاء بين الفرد والمأساة، بين القاتل والمقتول، بين الرغبة في الحياة وعبثية الموت. لا تقوم القصيدة على ثنائيات صارخة، بل على تآكل تدريجي للمعنى، حيث يفقد الجندي القدرة على الحلم، ويتحول إلى رقم في معادلة الحرب. تتخذ البنية هنا طابعا تجريديا، تتقاطع فيه اللغة مع الصمت، والحضور مع الفقد، والرمز مع التعرية. وتنتهي القصيدة بعبارة مواربة، تجعل المتلقي شريكا في صياغة النهاية، بل وفي مساءلة الحرب ذاتها.
ورأى المعاني أن الديوان لا يقرأ كمجموعة نصوص مجمعة، بل كمنظومة بنيوية متكاملة، تنسج خيطا سرديا شعريا يعيد طرح سؤال الهوية، ويفكك نسق التاريخ، ويوجه النظر إلى المصير العربي من ثلاث زوايا: زاوية الاستدعاء الاستعادي، زاوية الفعل المقاوم وزاوية المواجهة الذاتية. لا يقوم هذا الفعل على خطاب مباشر، بل على تركيب لغوي معقد يستند إلى مفارقة الصورة، وتعدد الأصوات، وتداخل الأزمنة.
وتتوسل القصائد جماليات الصورة المشهدية، بحسب المعاني، حيث يتجلى الحرب، الموت، المنفى والانهيار، بوصفها كيانات مرئية تتحرك داخل النص، وكأن اللغة تتحول إلى كاميرا ترصد التفاصيل بحساسية تصويرية دقيقة. الرمزية لا تغيب بل تتكاثف، فتتحول الزنابق البيضاء إلى رمزٍ للحلم المؤجّل، وتغدو غرناطة استعارة كبرى للهزيمة، وتصبح غزة مرآة قاسية للمآل.
وقال المعاني: "إن الشاعر لا يقدم إجابات نهائية، بل يكتفي بمراكمة الأسئلة الجارحة: "هل كان السقوط قدرا أم غفلة؟ هل المقاومة ممكنة في زمن الوهن؟ هل يحلم المقاتل فعلا بالنصر، أم يسير إلى موته مدفوعا بلا قناعة؟ وهل يمكن للقصيدة أن تحدث خلخلة في بنية العجز؟"
تتعمق هذه الأسئلة في البنية العامة للديوان، حيث تنتقل القصائد من سردية الفقد الحضاري، إلى مأساة الحاضر المسكوت عنه، إلى الانسحاق النفسي للذات في أتون المعارك. إنه انتقال من التاريخ، إلى الجغرافيا، إلى المصير الفردي، عبر لغة لا تخضع للمهادنة، ولا تنزلق إلى البكائية، بل تنحت بكلماتها مقاومة وجودية متمردة على السقوط المكرور. وخلص الدكتور المعاني إلى أن ما بين الأندلس وغزة، وما بين المقاتل الذي لا يحلم، والقصيدة التي لا تنام، يمضي الشاعر في بناء قصيدة تنتمي إلى التاريخ، لا لتستعيده، بل لتعيد مساءلته، وتصوغ من نثاره موقفا شعريا لا ينكسر. وهكذا، لا يكون "محجر الدموع جف" عنوانا لحالة بكائية، بل توقيعا جماليا على التحدي، وعلى ديمومة القول الشعري في وجه الغياب، والخذلان، والموت المستمر.