عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Nov-2025

بعد السرقة والتهجير.. مختبر صهيوني لصناعة "الفلسطيني الجديد"

 الغد

 بعد أن سرق الاحتلال أراضي آبائهم وأجدادهم، وقتل وشرد وسجن العديد منهم شرع الاحتلال منذ عدة سنوات، بوضع مخطط يستهدف سرقة الهوية، والتراث والتاريخ الفلسطيني، ويحور ديانتهم، لتتواءم مع مشروعه الصهيوني في سرقة ما تبقى من مقدراتهم. وفي الوقت الذي يوغل الاحتلال في تطرف مناهجه المخصصة لأبناء جلدته، ويعظم هويتهم اليهودية، ويزرع في نفوسهم تقديس التاريخ العسكري، نجده يستثمر أموالا طائلة وخبرات استشراقية وتربوية ونفسية لهندسة مناهج تعليمية للفلسطينيين.
 
 
وتسعى دولة الاحتلال لتحقيق هدف معاكس تماما، وهو خلق عربي جديد منزوع الهوية، متسامح حتى مع جلاده، ينفر من ثقافة القوة والاعتزاز بالهوية، ويجهل تاريخ أمته التي قادت العالم طوال قرون. والأخطر من ذلك، هو عربي مُبرمَج ليفهم نصوص دينه كدعوات لتعظيم محتليه والخضوع لهم.
ما يحدث في القدس اليوم ليس مجرد إجراء محلي، بل هو نموذج مكثف لمشروع أوسع يهدف الاحتلال لتطبيقه في كل فلسطين، ويسعى لتصديره إلى العالم العربي. فالمؤسسات الصهيونية التي دعمت مشروع أسرلة التعليم في القدس هي ذاتها التي سعت وما تزال لتغيير مناهج التعليم في العالم العربي، ولها نجاحات ببعض الدول العربية بالفعل.
مختبر القدس.. تشويه
المناهج كأداة للسيطرة
ولفهم أبعاد هذه المعركة، قامت لجنة من مجلس أولياء الأمور في إحدى مدارس القدس قبل عامين بدراسة مقارنة بين المناهج الفلسطينية الأصلية والنسخ التي حرّفها الاحتلال وفرضها على مدارس المدينة. لم تكن هذه الدراسة أكاديمية بحتة، بل كانت صرخة آباء وأمهات يدافعون عن هوية أبنائهم.
وكشفت الدراسة أن الاحتلال لم يتدخل في مواد العلوم المحايدة كالرياضيات والفيزياء، ولم يسعَ لرفد التعليم في القدس بخبراته التكنولوجية المتقدمة. بل تركزت كل تدخلاته- وهنا يكمن جوهر القضية- في المواد التي تشكل هوية الطالب وشخصيته ووعيه: التربية الإسلامية، واللغة العربية، والتاريخ، والتربية الوطنية. وكانت التغييرات بالعشرات، وتمتد عبر كل المراحل الدراسية، وتزداد عمقا وخبثا عاما بعد عام.
ويدّعي الاحتلال أن هدفه هو "إزالة التحريض ومكافحة التطرف"، وهو ادعاء تفنده حقيقة أن المناهج الفلسطينية الأصلية تخضع أصلا لرقابة مشددة من الدول الأوروبية المانحة. فالهدف الحقيقي ليس إزالة التحريض، بل إزالة الهوية ذاتها.
الحذف والإلغاء.. صناعة الفراغ التاريخي
يحذف كل ما يربط الطالب بتاريخه الحضاري وهويته الفلسطينية والعربية والإسلامية. وشملت عمليات الحذف التي رصدتها الدراسة، تاريخ فلسطين حذف الاحتلال معظم الدروس المتعلقة بتاريخ الشعب الفلسطيني وحاضره ونكبته، لدرجة أنهم حذفوا من كتاب الاجتماعيات للصف الخامس نصا يتحدث عن وجود حضارة إنسانية في فلسطين قبل 10 آلاف عام، وذلك، كما يبدو، جزء من تعزيز السردية الصهيونية التي تزعم أن تاريخ فلسطين بدأ مع بني إسرائيل.
وفي التاريخ الإسلامي، ألغى الاحتلال دروسا عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعارك المسلمين وبطولاتهم، كما حذف دروس السياسات الاستعمارية وتاريخها في العالم العربي.
التسامح المسموم
وفي كتاب التربية الإسلامية للصف السادس حُذف درس كامل عن بطولات المسلمين، واستُبدل به بيت شعر للإمام الشافعي تم إخراجه من سياقه، "لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ … أرحتُ نفسي من همّ العداواتِ". والهدف هو تحويل قيمة العفو النبيلة إلى دعوة للاستسلام والتخلي عن الحق.
الأخوة المنحرفة: في كتاب اللغة العربية للصف السابع، وبشكل مفاجئ، تُقحم صورة تُظهر عربيا يعانق شخصا بهيئة مستوطن يهودي، وتحتها كُتب حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليُعلمه". هنا يتم اختطاف نص ديني لشرعنة العلاقة مع المحتل وتصويرها كعلاقة "أخوة في الله".
تزييف الجغرافيا والتاريخ
وفي كتاب التنشئة الوطنية للصف الثالث يتم التلاعب بتعريف المسجد الأقصى المبارك، ليقتصر على مبنى المسجد القبلي فقط، بدلا من كونه كامل المساحة البالغة 144 دونما. هذا التغيير الدقيق يهدف إلى تهيئة الأجيال القادمة لقبول مخططات التقسيم المكاني، بحيث لا يشعر المسلمون أنهم خسروا شيئا إذا استولى الاحتلال على أجزاء واسعة من المسجد.
كما أن تحريف النصوص الدينية، وهو الأخطر، حيث يتم إقحام نصوص دينية إسلامية وتفسيرها بما يخدم الرواية الصهيونية. ففي كتاب التربية الإسلامية للصف الخامس، تُستخدم آيات من أواخر سورة السجدة لتعظيم مكانة اليهود عند الله وفي التاريخ، في تحريف فاضح لمعاني القرآن الكريم.
وفي أحد نصوص المرحلة الابتدائية، يتعلم الطفل العربي "فضل" دولة الاحتلال على قريته، وكيف أدخلت إليها الكهرباء والعمران، ليغرس فيه شعورا بالدونية والامتنان للمحتل. وفي نهاية الدرس، وإمعانا في الإذلال، يُطلب من الأطفال أن ينشدوا نشيد "عيد استقلال" الكيان، وهو ذكرى نكبتهم وتطهيرهم العرقي.
إن خطورة ما يحدث في القدس تكمن في كونه ليس حالة معزولة، بل هو "نموذج" يسعى الكيان المحتل لتصديره. فالمؤسسات الصهيونية نفسها التي تراقب التعليم الفلسطيني وتعمل على تغييره، مثل مؤسسة "IMPACT-se"، وسّعت نشاطها ليشمل العالم العربي والإسلامي. وتُستخدم الضغوط السياسية والاقتصادية أداة لفرض هذه التغييرات من خلال تعاون الاحتلال في ذلك مع أوروبا وأميركا.
ففي عام 2021 اشترط البرلمان الأوروبي تغيير المناهج الفلسطينية لتحويل مساعدات بملايين اليوروات، كما استخدمت الولايات المتحدة حجة المناهج كأحد مبررات فرض العقوبات على مسؤولي السلطة الفلسطينية. وحاليا، صرح نتنياهو بأن أحد اهداف الحرب على غزة هو إعادة تشكيل وعي أهلها من خلال مناهج تعليمية جديدة تشرف عليها دولة الاحتلال.
أما في دول عربية أخرى، فتأتي الضغوط تحت ستار "محاربة التطرف"، والتهديد بقطع المساعدات هو السلاح المستخدم. وكل ذلك بإشراف مؤسسات صهيونية لها نفوذ في الغرب، وقد حققت بالفعل نجاحات من خلال إدخال دول عربية عديدة لتغييرات في مناهجها بطلب من الغرب والاحتلال.
الدفاع عن المناهج في القدس ليس دفاعا عن مدينة فحسب، بل هو دفاع عن مستقبل أمة بأكملها ضد مشروع يهدف إلى صناعة "المسلم الجديد" و"العربي العبد"
معركة الوعي وسبل المقاومة
إن الهدف النهائي "لأسرلة التعليم" هو كسر إرادة الإنسان الفلسطيني والعربي، وتجريده من ثقته بنفسه وحضارته. يريد الاحتلال إنشاء إنسان مُدجّن، فاقد للذاكرة، لا يملك إرادة الدفاع عن حقوقه ومقدساته، بل ينظر بإعجاب وامتنان لمن قهره وظلمه.
ما بدأ في القدس وفلسطين يمتد اليوم ليطرق أبواب العواصم العربية. إنها معركة على الوعي، والدفاع عن المناهج في القدس ليس دفاعا عن مدينة فحسب، بل هو دفاع عن مستقبل أمة بأكملها ضد مشروع يهدف إلى صناعة "المسلم الجديد" و"العربي العبد".
ولكن، على الرغم من خطورة هذه الحرب الخفية على الوعي، تقدم تجربة الأهالي في القدس مؤشرا مهما على فاعلية المقاومة المعرفية. فمبادرتهم لدراسة المناهج وتوثيق التحريفات ونشرها بين الأهالي لا تمثل مجرد رد فعل، بل هي برهان على أن الوعي بطبيعة المعركة وأدواتها الخفية هو من أنجع سبل المواجهة.
لقد أثبتت هذه التجربة المحلية أن تفكيك سردية المحتل وفضح مخططاته يشكل خط الدفاع الأول عن الهوية. ويقدم هذا النموذج المقدسي دليلا على وجود إمكانية حقيقية لمواجهة هذه الضغوط، ليس في فلسطين وحدها، بل في أي سياق يتعرض فيه النسيج الثقافي والتعليمي لمحاولات التوجيه الخارجي. - (وكالات)