عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Feb-2023

الإقليم العربي في تقرير مؤشر مدركات الفساد لعام 2022

 الغد-محي الدين توق

أطلقت منظمة الشفافية الدولية ومقرها في مدينة برلين بألمانيا في نهاية الشهر الماضي تقريرها عن مؤشر مدركات الفساد لعام 2022 الذي شمل 180 دولة وإقليما حول العالم. ويشير التقرير بوضوح إلى تفاقم حالة الفساد، وإلى أن كافة الجهود التي بذلت في المستويات الدولية والإقليمية والوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته خلال عقد كامل من الزمان لم تفلح في تغيير الصورة القاتمة لحالة الفساد. فعلى الرغم من الجهود المضنية التي تم بذلها لم يتغير المتوسط الدولي للعلامة على المؤشر، حيث بلغ 100/43 وهي علامة دون الخمسين التي تعتبر حد النجاح. كما بقيت علامات ثلثي الدول التي غطاها التقرير دون علامة الخمسين، بل وتراجعت علامات عديد الدول، وسجلت 26 دولة أسوأ علامة لها في تاريخها.
يركز التقرير هذا العام على قضايا رئيسة مثل انتشار الحروب والصراعات واهتزاز الأمن والسلم من جهة، وانعدام الثقة بين الحكومات بشعوبها من جهة ثانية كعناوين رئيسة اثرت على هذا الوضع المتردي. فالسلم الدولي يشهد تراجعا على مدى سنوات طويلة، كما أن الديمقراطية، كأحد مصادر الثقة، تمر في حالة سبات واضحة، ان لم يكن قد تراجعت. ويجادل التقرير ان الفساد سبب ونتيجة بنفس الوقت لهذه الأوضاع المتردية، فالفساد يذكي الحروب ويغديها، وهذه بدورها تنعش الفساد.
إن الحديث عن العلاقة العضوية بين الحروب والصراعات وانعدام الأمن من جهة وانتشار الفساد من جهة ثانية يبدوا أكثر وضوحا عندما يتناول التقرير الإقليم العربي (الشرق الأوسط وشمال افريقيا). فدول الإقليم التي تتمتع بالاستقرار النسبي سجلت أفضل العلامات على المؤشر، بينما سجلت الدول المأزومة والمبتلاة بالصراعات والاضطرابات والاقتتال الداخلي اسوأ العلامات. اما في المتوسط العام فقد تراجع المتوسط الحسابي لعلامات دول الإقليم لأدنى مستوى له حيث بلغ 100/38 منخفضا خمس علامات عن المتوسط الدولي، ولا عجب في ذلك إذا علمنا ان مؤشر السلام العالمي (Global Peace Index) يظهر أن الإقليم العربي هو أقل أقاليم العالم سلاما، ويعزو التقرير هذا الوضع الى عاملين كبيرين، هما “تركز القوة (السياسية والاقتصادية) بيد فئة قليلة، والاستبداد الذي ما يزال سيد الموقف، على الرغم من تغير بعض القيادات”. فالفشل في تفكيك بنى القوة في الإقليم، وتركز السلطة، وعدم افساح المجال امام الناس للمشاركة في صناعة القرار أدى إلى الاضطرابات والاحتجاجات المدنية في بعض دول الإقليم، بل وإلى الصراعات العنيفة والدموية في بعض الدول الأخرى. ليس ذلك فحسب، بل أدى هذا الوضع إلى تزايد الفساد وتسريب الأموال إلى الخارج بشكل عام، وإلى تعزيز الفساد السياسي الذي يغذي الحلقة الازلية (الاستبداد-الفساد-الصراعات المدمرة) بشكل خاص، حسب التقرير.
ان العلامة على مؤشر مدركات الفساد كما هو معلوم عبارة عن علامة موزونة تستقى من ثلاثة عشر مصدرا أو مؤشرا تتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية ووضع الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول. ولذا فإن علامة أي دولة على مؤشر مدركات الفساد تتأثر بالعلامة التي تحصل عليا الدولة في كل مصدر من هذه المصادر، فدولة ما قد تحصل على علامة جيدة على كفاءة وفاعلية الإدارة العامة المستمد من مؤشر البنك الدولي للحوكمة العالمية (World Governance Indicators)، الا انها قد تحصل على علامة منخفضة على مؤشر الحرية الذي يصدره بيت الحرية (Freedom House) وهكذا. ولذا فان أي دولة تريد ان تحسن وضعها على المؤشر عليها ان تفحص بعناية وعمق وضعها على كافة المؤشرات الفرعية المكونة لعلامة مؤشر مدركات الفساد.
ان استعراض علامات الدول العربية على مؤشر مدركات الفساد لعام 2022 يظهر ان كل من الإمارات المتحدة (67)، وقطر (56)، والسعودية (51) سجلت أفضل العلامات للسنة الثانية على التوالي، تليهم الأردن (47) والبحرين (44). الا ان علامات كافة هذه الدول تراجعت عن علاماتها للعام الماضي ما عدا البحرين التي تقدمت تقدما لا بأس به. كما تراجعت علامات عشر دول عربية عن علاماتها للعام الماضي، وبقيت علامات سبع دول كما هي، بينما تقدمت علامات ثلاثة دول فقط، علما أن علاماتها كانت وما تزال منخفضة أصلا. ومن الملفت ان علامات أكثر من نصف الدول العربية تقع في الثلث الأدنى للعلامات، أي 33 فما دون، كما أن من الملفت أيضا ان الدول التي تراجعت علاماتها هي دول الرخاء العربي مثل الإمارات وقطر والسعودية والكويت وعمان، والدول التي تسعى للحكم الديمقراطي مثل الأردن والمغرب وتونس. كما أن الدول التي حصلت على أسوأ العلامات هي التي تعاني من الاضطرابات والاقتتال الداخلي مثل ليبيا (17) واليمن (16) وسورية (13) والصومال (12). وفي المحصلة فإن الوضع العام للدول العربية محزن ومقلق للغاية، بدلالة انخفاض المتوسط العام لعلاماتها على المؤشر، وعدم تمكن سوى ثلاثة دول من تخطي حاجز علامة الخمسين، ووجود أربعة دول ضمن أسوأ عشر دول في العالم، وهذا يؤشر بوضوح إلى وجود سمات مشتركة بينها تميزها، وتسهم مجتمعة بنفس الوقت، في تفسير هذا الوضع المتردي. فما هي هذه السمات؟
يشير التقرير صراحة، وما بين السطور، إلى عدد من السمات الرئيسة التي تميز إدارة الحكم في الدول العربية والتي تسهم ليس في انتشار الفساد فحسب، بل وفي زيادة التوترات المدنية والصراعات الداخلية، بما فيها العنيفة. ومن هذه السمات:
1. النزعة السلطوية وضعف أو غياب مشاركة الناس في صناعة القرارات، وبالتالي ضعف الرقابة والمساءلة.
2. بنى القوة التقليدية (Power Structures) العصية على التغيير، وعدم القدرة على تفكيكها حتى بعد “ثورات الربيع العربي”.
3. انعدام السلم والأمن الاجتماعي حيث بين آخر مؤشر للسلم العالمي (Global Peace Index) إلى أن الإقليم العربي هو اقل أقاليم العالم سلما، مما جعل معامل المجازفة لكل دول الإقليم اما عاليا، او عال جدا، او خطيرا.
4. غياب او ضعف قنوات المشاركة المدنية، والشفافية، والقدرة على الوصول للمعلومات المتعلقة بالموازنات والمشتريات الحكومية بشكل عام، وذات الصبغة الحساسة بشكل خاص.
5. تركز الثروة في ايدي فئة قليلة من الناس، وظهور طبقة من المتكسبين والمتنفعين من السلطة التنفيذية، ونمو قدرتهم في التأثير على صناعة السياسات العامة لما فيه مصلحتهم، حتى وان أدى ذلك الى الاحتراب الداخلي.
6. التضييق على المجتمع المدني ووسائل الاعلام مما أضعف من قدرتهما على الرقابة والاسهام في التغيير الاجتماعي.
7. ضعف اليات الوقاية من الفساد وغيرة من الجرائم الماسة بالمال العام، على الرغم من التقدم المحرز في بعض الدول في مجال كفاءة وفاعلية الإدارة الحكومية.
8. تركز الجهود على ملاحقة الفساد الصغير (رشوة الموظفين العموميين) وضعف او غياب الاليات المناسبة للكشف عن الفساد الكبير، والفساد السياسي المنظم، وضعف الرقابة على حركة أموال المتنفذين، واستخدام المال العام لأغراض فئوية او خاصة، ليس ذلك فحسب فقد بلغ حد الفساد في أحد الدول العربية الى منع المواطنين من سحب مدخراتهم الخاصة من البنوك.
9. تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، التي يفترض فيها حماية الحقوق والحريات، وعلى المؤسسات الحقوقية، وقد وصل الحد في احدى الدول العربية الى اغلاق هيئة مكافحة الفساد فيها منذ بداية عام 2021.
10. إنفاق المال العام على مشروعات بذخية لا تسهم بالضرورة في التنمية المستدامة، وخاصة عندما يكون هذا الانفاق على حساب تحسين الخدمات الأساسية للمواطنين كالتعليم والصحة والنقل والرعاية الاجتماعية، مما يزيد من فجوة الثقة المتدهورة أصلا.
ان انطباق السمات المذكورة أعلاه كليا أو جزئيا، يختلف بطبيعة الحال من دولة لأخرى، ومن إقليم فرعي لأخر. ولذا تناول التقرير بنوع من التفصيل حالة دول الخليج العربية، وحالة دول المشرق العربي، وحالة دول المغرب العربي، وحالة الدول العربية التي تمر بالصراعات العنيفة والاقتتال الداخلي كل على حدة. ومع ذلك يمكن للقارئ المتفحص للتقرير ان يكتشف ان الفرق بين الدول العربية يكمن في الدرجة وليس في النوع.
ان التراجع الواضح للدول العربية في تقرير مؤشر مدركات الفساد لعام 2022 يجب ان يكون نداء يقظة لإجراء الإصلاحات الحقيقية التي طال امدها، وعلى راسها وقف دوامة العنف، وانهاء نمط الاستفراد بالسلطة، وفتح المجال لمشاركة الناس في صناعة القرار، وحماية وتعزيز الحقوق والحريات.
*كان الكاتب رئيس اللجنة الدولية المخصصة للتفاوض بخصوص اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد