عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Oct-2021

حركات الإسلام السياسي كمنتج للحداثة الغربية* إبراهيم علوش
الصوت العربي الحر -
طلقة تنوير 31
 
يقول روبرت درايفوس في الصفحة الأولى من الفصل الأول من كتابه "لعبة الشيطان: كيف ساعدت أمريكا على إطلاق العنان للإسلام الأصولي" (2005) إن جمال الدين الأفغاني التقى في لندن في العام 1885 بعددٍ من مسؤولي الخارجية والمخابرات البريطانية ليعرضَ عليهم الفكرة التالية: "هل يمكن أن تكون بريطانيا مهتمّة بتنظيم تحالف إسلامي ما بين مصر وتركيا وفارس وأفغانستان في مواجهة روسيا القيصرية؟" (ص. 19).  
 
 وينسب درايفوس قصة ذلك اللقاء، الذي يشكّل برأيه باكورة مبدأ التوظيف الاستراتيجي للإسلام السياسي من قبل الغرب، إلى كتاب بالإنكليزية صدر في نيويورك عام 1933 بعنوان "الإسلام والحداثة في مصر" لكاتبه سي. سي. آدامز.   وقد استندت استراتيجية تشكيل حاجز جغرافي-سياسي في مواجهة نزوع روسيا القيصرية للتمدد جنوباً، عماده الإسلام السياسي، إلى الصراع المستعر بين الإمبراطورية البريطانية والقيصرية الروسية آنذاك.  
 
وبحسب درايفوس، فإن البريطانيين لم يتبنَّوا الفكرة مباشرة بحماسة، لكنهم لم يستبعدوها، وراحوا يختبرون صيغاً مختلفة من الإسلام السياسي على مدى عقود يمكن أن تحقق مشروع الحاجز الاستراتيجي، لا في مواجهة روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفياتي فحسب، بل في مواجهة حركات التحرر القومي والحركات اليسارية في الوطن العربي وفارس وتركيا وباكستان وغيرها، ويشكّل كتاب "لعبة الشيطان" محاولة لتوثيق تلك الاختبارات المتعاقبة، التي تولّاها الأمريكيون عن البريطانيين فيما بعد، والتي تمخّضَ عنها التيار التكفيري المعاصر بشكل خرج حتى عن سيطرة من سعَوا جاهدين لاستغلاله وتوظيفه في سياق مصالح الإمبريالية الجيوسياسية، وفي سياق محاربة حركات التحرر القومي على مدى القرن العشرين.
 
يتميز درايفوس في كتابه المذكور أعلاه بأنه حرص منذ البداية على التمييز بين موقفه من الإسلام كديانة، وكثقافة لشعوب عدة أمم، وبين موقفه من الإسلام السياسي كحركات ذات وظيفة سياسية نتجت عن عوامل حديثة ومعاصرة يرى بأنها غريبة عن روح المجتمع الإسلامي الأول، وأنها لم تصبح مهيمنة في الزمن المعاصر إلا لعوامل معاصرة، أحدها الدعم الذي تلقّاه من الغرب ضمن حسبة يرى درايفوس أنها كانت محكومة باعتبارات براغماتية قصيرة النظر، بمعنى أنها لم تحسب جيداً، كحسبة استراتيجية، مخاطر ارتداد ربيبها الغولي عليها.   وكما يقول درايفوس في مقدمة كتابه: "على عكس المعتقد الديني الذي يقف خلفه أربعة عشر قرناً من التاريخ، فإنّ الإسلام السياسي محصولٌ أحدث عهداً.  فهو معتقدٌ سياسي تعود أصوله لنهايات القرن التاسع عشر كفلسفة مكافِحة شمولية قد تبدو مبادؤها غريبةً أو مهرطِقة لمسلمي العصور السابقة، ولا تزال تبدو كذلك للكثير من المسلمين المثقفين اليوم.  وسواءٌ أسميناها الحركة الإسلامية أم الأصولية الإسلامية أم الإسلام السياسي، فإنها تبقى صنيعة مختلفةً تماماً عن التفسير الروحاني للحياة الإسلامية المتضمنة في أركان الإسلام الخمسة.  إنها، في الواقع، تحريفٌ للإيمان.  تلك هي الأيديولوجية المشوّهة التي شجّعتها الولايات المتحدة ودعمَتها ونظّمتها وموّلتها" (ص. 2-3).
 
قلنا إن درايفوس يبدأ من جمال الدين الأفغاني الذي نقلته سفينة بريطانية من الهند للسويس، حيث زار القاهرة ليسافرَ بعدها إلى تركيا ويعود منها إلى القاهرة ليبقى هناك برعاية رئيس وزرائها رياض باشا المعروف برجعيته وعدائه للحركة الوطنية المصرية الصاعدة.  وقد اتّخذ الأفغاني من محمد عبده مساعداً أو نائباً حلّ محله بعد مغادرته القاهرة في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، ليتابع العمل الذي بدأه الاثنان معاً في تأسيس حركة إسلام سياسي دولية.  وكان عبده مناهضاً للمقاومة ضد البريطانيين ولقادتها من أمثال عرابي باشا، وكان الاثنان قد تركا مصر ردحاً من الزمن ليعملا على تأسيس شبكة سياسية ذات شعار إسلامي في الهند والجزيرة العربية والشام ومصر والمغرب العربي.  وقد أقام الأفغاني في باريس فترة أصدرَ خلالها، بالتعاون مع عبده، أسبوعية "العروة الوثقى".  وعندما انطلقت ثورة المهدي في السودان كتب الأفغاني ناصحاً البريطانيين في إحدى مقالاته: "أخاف، كما يفعل كل العقلاء، أن انتشار المهدية وتزايد مريديها سوف يضرّ بإنجلترا وكل من له حقوق في مصر"، مضيفاً في مقالة أخرى أن المهدية لا تمكن مواجهتها إلا بتحدٍ معاكس يستند للإسلام كمبدئه المنظم: "إنّ قوة الوعظ الإسلامي لا تمكن مقابلتها إلا بحزم إسلامي، ولا يستطيع إلا رجالٌ مسلمون أن يناضلوا ضدّ هذا المدّعي وأن يحجّموه إلى مكانته المناسبة" (ص. 29).   
 
لكن البريطانيين لم يكونوا قد أخذوا الدعوة بجدية بعد...  غاضباً، يذهب الأفغاني إلى روسيا، ليعود بعدها بفترة إلى لندن بعد أن رضي.  أما عبده فذهب إلى تونس، ومنها ذهب متخفياً إلى عددٍ من الدول لتقوية التنظيم الذي كان قد بدأ بتأسيسه مع الأفغاني.  وفي نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر، تحوّل محمد عبده علناً لدعم البريطانيين في مصر، وألقى بأوراقه مع اللورد كرومر وإدارة الاحتلال البريطاني، وفي عام 1899، بعد عامين من وفاة الأفغاني، تم تعيينه مفتياً عاماً لمصر بدعم من كرومر.  وقد اتّخذ محمد عبده مساعداً أو نائباً أول يخلفه هو محمد رشيد رضا القادم من طرابلس.  واتخذ محمد رشيد رضا مساعداً أو نائباً بدوره هو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.
 
لكنّ تجربة الثلاثي (الأفغاني-عبده-رضا) في الطرح الفكري والتنظيم والعمل السياسي كانت مجرد مراحل اختبارية في بلورة المشروع الكبير الذي حقق قفزةً نوعيةً من خلال طفرتيْن حقيقيتين يرى درايفوس أنهما تفاعلتا على مدى عقود لتنتجا الحركة التكفيرية المعاصرة في القرن الواحد والعشرين: 1) تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية عام 1928، و2) سيطرة الحركة الوهابية، تحت عباءة آل سعود، على معظم شبه الجزيرة العربية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى.  
 
بدأ الدعم البريطاني المنتظم لآل سعود في العام 1865.  وكانت الرياض قد سقطت بأيدي ابن سعود عام 1902، الذي كان قد أسس خلال تلك الفترة قوّاته الضاربة التي اجتاحت معظم شبه الجزيرة بعد ذلك والمعروفة باسم "الإخوان".  وكان اللورد كرزون، حاكم الهند البريطاني، قد اقتطع محمية الكويت من البصرة عام 1899 وجعلها قاعدة بريطانية، ثم دعا ابن سعود والوهابيين إليه فانطلقوا منها لاكتساح شبه الجزيرة.  وكان ذلك العام هو عام شيوع أنباء جلوس شبه الجزيرة والخليج العربي على النفط، ليتحوّل مركز الثقل الاستراتيجي البريطاني تدريجياً من السويس والهند إلى دول الخليج العربي.  وقد وُقّعت أول معاهدة بين بريطانيا والسعودية في العام 1915، لتدخلَ الولايات المتحدة وتستولي سياسياً على السعودية من بريطانيا ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين.  والطريف أنّ مكتب القاهرة في التاج البريطاني تولّى العلاقة مع الشريف حسين والهاشميين، بحسب درايفوس، فيما تولّى مكتب الهند العلاقة مع آل سعود.  
 
أما فكرة تأسيس مملكة سعودية فبغَرَض عدم تحوّل تلك الصحراء الشاسعة إلى مصدرٍ لعدم الاستقرار يهدد المصالح الإمبريالية، النفطية والاستراتيجية، في مثل تلك المنطقة الحيوية.  وكان الضابط البريطاني المكلّف بالعلاقة مع ابن سعود هو هاري فيلبي الذي كان يسلّمه 5000 جنيه استرليني شهرياً ابتداءً من شهر كانون الثاني 1917.   ويقول درايفوس اعتماداً على مصادر مختلفة أنّ حملة آل سعود والإخوان الوهابيين للسيطرة على شبه الجزيرة العربية، ضمن الحدود التي رسمتها بريطانيا لهم، جرّت في آثارها 400 ألف قتيل وجريح، و40 ألف إعدام على الطريقة الوهابية، و350 ألف حالة قطع للأيدي والأرجل.  وكان هذا ما ضَمِنَ لبريطانيا سلسلة ممتدة من الدول التابعة بين البحر المتوسط والهند.   ومع أن ابن سعود حلّ الإخوان في نهاية عشرينيات القرن العشرين، إلا أن الوهابية كمذهب ظلّت العقيدة الرسمية للدولة التي باتت قاعدة لنشر ذلك المذهب بعيداً خارج شبه الجزيرة والوطن العربي، إلا أن ذلك لم يؤذن بنشوء الإسلام السياسي بصبغته المعاصرة بعد، إنما منَحَه نكهته الدوغمائية وحاضنته الرسمية وحسّه الدموي وجذوره العقائدية، ولا نقول الفكرية، لأنّ الوهابية، حتى بأكثر المقاييس تساهلاً، لم تنتِج شيئاً يشبه الفكْر.
 
في مصر، رحّبت مجلة "المنارة" التي كان يصدرها محمد رشيد رضا بصعود الوهابية قائلةً "إنّ نجماً جديداً من الأمل ظهر مع صعود سلالة آل سعود الوهابية"!   ودأبت "المنارة" في الآن عينه على مهاجمة الوطنيين المصريين بذرائع شتى، منها "ابتعادهم عن الدين"، معتبرةً إياهم "ملحدين وكفاراً"، فيما أسهَمَ أتباع رشيد رضا وعبده بتأسيس "حزب الشعب" في مصر، بدعم من بريطانيا، وكان حزباً دعم الاحتلال البريطاني لمصر علناً.  وقد كان والد حسن البنّا تلميذاً عند محمد عبده، وكان البنّا يقرأ "المنارة" بنَهَمّ.  وقد قال في سيرته الذاتية عن محمد رشيد رضا إنه كان أحد أعظم التأثيرات في خدمة الإسلام في مصر.   وقد كان البنّا تلميذ رشيد رضا الأبرز، وعندما تلقّى دعماً مالياً بريطانياً لتأسيس مسجد أصبح قاعدة لعمله السياسي والدعوي في الإسماعيلية في نهاية عشرينيات القرن العشرين، كانت الإسماعيلية مركزاً ليس فقط لقاعدة عسكرية بريطانية، بل لمكاتب شركة قناة السويس، ولنزعة تأييد بريطانيا في مصر.  
 
وعندما كانت حركة الاستقلال المصرية تنادي برحيل الاحتلال البريطاني وبدستور ينظّم الحياة السياسية في البلاد، كان الرد الديماغوجي لحركة الإسلام السياسي هو: "القرآن دستورنا"!  مما برح جزءاً من الهتاف الإخواني حتى اليوم...  وقد وصف حسن البنّا دعوة الإخوان المسلمين بأنها "دعوة سلفية، وطريقة سنّية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية"، أما عملية وهْبَنة التنظيم والبرنامج الإخواني وتلاقحهما، فكان عليها أن تنتظر سيد قطب وأبا الأعلى المودودي في باكستان.   فهنالك اجتمعت العناصر المتفجّرة التي انفلتت من رحمها جذوة الحركات التكفيرية المعاصرة فعلياً.  
 
لكن جماعة الإخوان المسلمين كانت، حتى قبل الوصول إلى تلك النقطة الوهابية، عاملاً من عوامل استقرار النظام الملكي في العشرين عاماً التي سبقت ثورة 23 يوليو في مصر، كما كانت من أهم عوامل كبح جماح الوطنيين واليسار.  وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، بدأت حملة مكافحة الشيوعية وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، فتلقّى الإخوان دعماً مالياً من النظام الملكي، وفُتحت لهم معسكرات التدريب  برعايته، أي بموافقة بريطانيا.  وعندما بدأ توازن النظام الملكي يختلّ، بعد احتلال فلسطين مباشرة، توترت علاقتهم معه.  لكن حسن البنا ظلّ على تواصل منتظم مع السفارة البريطانية، ومن ثم الأمريكية، في مصر.  
 
بعد ثورة 23 يوليو، تحوّل الإخوان إلى أداة مباشرة بيد النظام السعودي الذي كان يدعمهم قبلها، وبيد الغرب، لمحاربة عبد الناصر والناصرية حرباً شعواء بكل المقاييس.  واللافت للنظر أن سعيد رمضان، صهر حسن البنا، ومسؤول القسم الخارجي في جماعة الإخوان، تمّ استقباله في البيت الأبيض في نهاية صيف عام 1953 من قِبل الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، بناءً على توصية من السفارة الأمريكية في القاهرة، مع أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن قد دخل في صراع مفتوح مع الأمريكيين وقتها، ولم يكن قد كشف لهم أوراقه بعد.  وكان سعيد رمضان في السابعة والعشرين من عمره في ذلك الوقت، وقد دُعيَ للمشاركة في ندوة عن الثقافة الإسلامية في جامعة برينستون نظّمتها، في الحقيقة، وكالة المعلومات الأمريكية، مع زيارة جانبية خاصة لواشنطن.   ويعتبر سعيد رمضان المنظّم الرئيسي لفروع الإخوان المسلمين خارج مصر، وقد انتقل إلى باكستان فترةً بعد بدء الصراع بين الإخوان وعبد الناصر، حيث تمّ ترتيب بَثّ خُطَب له عبر المذياع لمصر والدول العربية مرتين أسبوعياً، وقد استقرّ رمضان في سويسرا في النهاية، وقد أشرف في البداية على تأسيس فروع الإخوان في الأردن وسورية والكويت وغيرها.
 
تلاقُحْ نمط التنظيم الدولي الإخواني مع النزعة الوهابية الدموية الشاملة، وتأصيلها فكرياً عبر سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، أنتَجَ المنظومة التي تناسلت منها حركات إسلام سياسي أكثر فأكثر تشدداً وصولاً للحركات التكفيرية الراهنة.  والبقية ليست إلا تاريخاً معاصراً.  ومحور تلك المنظومة هو بالضبط محاربة الحداثة، بكل أشكالها، ولهذا وجدت فيها الدول الإمبريالية أداة قابلة للتوظيف في مواجهة الحركات القومية واليسارية قبل الحرب الباردة وخلالها، فهي بشكلٍ من الأشكال أحد منتجات الحداثة الغربية.  وقد عملت تلك الدول الإمبريالية بشكل حثيث، بالتعاون مع الأنظمة الرجعية العربية، وعلى رأسها مملكة آل سعود، على نفخ الحياة في تلك الحركات كأدوات وظيفية.  لكن للأيديولوجيا حياة خاصة بها، مستقلة عمّن أسهَمَ بإنتاجها.  ولهذا نرى السحر يرتدّ على الساحر، أحياناً بصيغة إرهاب أو وحشية موجهة ضد الغرب والغربيين، لكن العبء الأكبر للتكفير حمَلَه الشعب العربي تاريخياً، وشعوب المنطقة، وحركات التحرر والنهضة في الدول الإسلامية، وبدرجة أقل، الاتحاد السوفياتي، خصوصاً في حرب أفغانستان التي مثّلت نقطة الانقلاب في ارتقاء الحالة التكفيرية إلى الشكل الفرانكشتيني الذي عرفناه في القرن الواحد والعشرين.
 
وإذا كانت النظريات التي تتحدث عن "حروب الجيل الرابع"، بصفتها حروباً غير مباشرة تستخدم أدوات سياسية واجتماعية وفكرية وإعلامية واستخبارية، إلى جانب الأدوات العسكرية، في استنزاف الخصم إلى درجة الشلل، تعتبرها من مميزات حروب الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين ضد الدول المستقلة، فإن دور بريطانيا خصوصاً في تنمية الحالة الوهابية ودعمها، وحركات الإسلام السياسي، منذ احتلالها لمصر بالذات، كترياق ضد النزعة القومية العربية تحديداً، لإجهاضها في المهد، هو في الواقع أحد أقدم أشكال استخدام حروب الجيل الرابع في العصر الحديث.   وقد كان يمكن لحياتنا السياسية العربية أن تذهب باتجاه آخر مختلف تماماً عن اتجاه الأسلمة الذي ذهبت إليه، كما كان واضحاً خلال الخمسينيات والستينيات مثلاً.  ويشكّل استخدام حركات الإسلام السياسي ضدّ ليبيا من قبل الناتو في العام 2011 وضدّ سورية حتى اليوم، مجرد تطوير لتجربة تاريخية عريقة اكتسبتها الإمبريالية في إجهاض حركات النهضة والتحرر القومييّن لدى الشعوب.  وبمقدار ما تتجدد الحاجة الإمبريالية لتطويق روسيا بحزام إسلاموي، وبمقدار ما تبقى الحاجة لتدمير الدول ذات النزعة القومية المستقلة من الداخل، وللحفاظ على التوازن الداخلي في الأنظمة الرجعية من خلال ثنائية العرش-الإخوان، كما في المغرب والأردن مثلاً، فإنّ الحاجة لضخّ الحياة في النزعة الإسلاموية وتوظيفها في الواقع السياسي العربي تبقى قائمة، مع محاولة احتواء أعتى أشكال ارتداداتها ضد الغرب والغربيين بين الفينة والأخرى.  أما الحركات إسلامية الخطاب التي تتخذ منحىً وطنياً أو قومياً أو تحررياً، كما حركة المهدي في السودان مثلاً في القرن التاسع عشر، أو حركات عمر المختار وعبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي، فلها حسبة أخرى طبعاً، لأنها تعد من حركات التحرر الوطني والقومي فعلياً.