الغد- لقد أعيد اختراع الإعلام بالفعل، ليس على يد الصحفيين والكتاب والمؤسسات الصحفية لكن على يد شركات التكنولوجيا، هكذا فإن المؤسسات الإعلامية التقليدية في جميع أنحاء العالم تواجه تحديات كبرى وجودية لم تعد تخفى على أحد. لكنها في الأردن والدول العربية في مواجهة تحديات أكثر عمقا وتأثيرا، لأنها مرتبطة أيضا بتاريخها مع الدولة المركزية والتي تواجه هي أيضا تحديات كبرى. والحال أن التحولات والأزمات لا تخص الإعلام، لكنها تشمل الموارد والمؤسسات والمجتمعات والأسواق؛ جميعها بلا استثناء.
الصحف التي رافقت المطبعة ووسائل الاتصال وصارت مكونا أساسيا في الدول والمجتمعات والأسواق والأفراد؛ تذبل وتنحسر، وتكاد تُستأصل من نسيج الأمم، .. لكنه انتزاع مؤلم وقاس، ذلك أن الصحافة ليست جزءا مستقلا عن الأمم والمجتمعات يمكن أن يذبل أو يبتر، بل هي مكون متداخل في الأعمال والمؤسسات والحياة والأسواق، والحال أن الأمم تعيد تشكيل نفسها وفق نسيج جديد يأخذ الإعلام فيه تكوينا جديدا ومختلفا عما كان عليه في علاقته التكوينية والعضوية بوسائل الإعلام.
لقد تحول الإعلام إلى تاريخ مجيد؛ الأعمال والمهن والمغامرات والمؤسسات والكليات الجامعية والتدريبية والنقابات، ولن يفيد هذا الإنجاز الجميل والعملاق ما يبذل لإنعاشه وتطويره، وليس ما يقدم للإعلام اليوم مختلفا عن أجهزة الإنعاش التي تزود مريضا يحتضر بفرص البقاء على قيد الحياة. فلا مناص من اختفاء المؤسسات الإعلامية القائمة ونشوء منظومات أخرى جديدة ومختلفة. سوف تغدو قصص الإعلام والمطابع والتوزيع والإعلان والمهن والمحاكمات والسجون والقتل والحرمان والتطوير والإبداع تاريخا يشغل صناع الدراما، مثل الفرسان والسيوف والرماح .. ليس الإعلام أعزّ من القلاع والجيوش والأبطال!
في مقالة طويلة نشرت في نيويورك تايمز بتاريخ 28 كانون ثاني 2019 تحت عنوان هل للصحافة مستقبل؟ يشير الكاتب جيل ليوبارد إلى أن خمسمائة صحيفة أميركية خرجت من العمل بين عامي 1970 – 2016، وهو العام الذي توقفت فيه عن العمل الجمعية الأميركية لمحرري الأخبار.
وتتحول قصص إغلاق الصحف إلى ما يشبه أخبار الوفيات، وأما الحنين إلى الورق فقد تحول إلى مرثاة بائسة! وتتوالى كل يوم قصص وأخبار تخفيض الوظائف وتسريح العاملين وتأخير المكافآت والرواتب في المؤسسات الصحفية، المسألة ببساطة ووضوح لم تعد الصحف ووسائل الإعلام قادرة على تحقيق إيرادات كافية لجني الإيرادات والأرباح.
وبرغم صحة ووجاهة ما يقال عن الأخبار المزيفة وضعف الأداء الإعلامي في شبكات التواصل والإعلام الجديد، فإن ذلك لن يساعد الإعلام التقليدي، سنتحول ببساطة إلى مجتمعات بلا أخبار موثوقة، ولا إعلام رصين، وعندما ينسحب هذا الجيل لن يتذكر أحد المقالات الرصينة والتحقيقات والمقابلات الصحفية والاستقصاءات والمغامرات الإعلامية. يقول رئيس تحرير الغارديان لعشرين عاما؛ آلان روسبريدجر لم تعد المؤسسات الإعلامية تقدم أخبارا جيدة، ولم يعد ذلك هدفا للمؤسسات الصحفية. واجهت الصحافة تحديا ومنافسة بعد ظهور الراديو والتلفزيون، لكن تطور الإعلام في مزيج متناغم من المكتوب والمصور والمسموع والمرئي، واعتقد كثير من المحللين أن يكون الاندماج في الانترنت مرحلة جديدة للإعلام، لكن يبدو أن الشبكة تنشئ اتجاهات وتحولات كبرى وعميقة في الأعمال والموارد والقيم تستبعد الإعلام التقليدي من البنية القادمة للأمم والأسواق والمؤسسات.
لم يكن مردّ التغيرات التي اجتاحت الإعلام إلى الأيديولوجيا ومن ثم فإن الحلّ ليس ثقافيا أو أيديولوجيا، لن تفيد شيئا الدعوات الوطنية والثقافية للحفاظ على صحافة الآباء والأجداد!
اليوم تنشئ عمليات التحليل والتفاعل مثل الإعجاب والتعليق والأكثر قراءة اتجاهات جديدة في الإعلام، وتظهر أيضا مجالات جديدة للاهتمام والمتابعة لم تكن تشغل الصحافة من قبل، وتنتشر على نطاق واسع عمليات الأخبار والإشاعات والمقالات مجهولة المصدر، وتخوض وسائل الإعلام التقليدية مباراة بقواعد مختلفة لا تعرف عنها شيئا. ولم يعد ممكنا سوى العودة من جديد إلى الأسواق والمجتمعات بقواعد وأفكار جديدة ومختلفة.