عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Dec-2025

المشروع 545*إسماعيل الشريف

 الدستور

السلاح الأول في أي حرب هو الرواية- تشرشل.
كشفت عملية طوفان الأقصى عن الانحياز الواضح لعمالقة شركات التكنولوجيا العالمية إلى جانب الكيان الصهيوني؛ حيث قدمت مؤسسات تقنية رائدة مثل أمازون وجوجل وميتا ومايكروسوفت وموتورولا وإنتل وغيرها دعمًا لوجستيًّا وتقنيًّا لقوات الاحتلال، وتورطت بمستويات متباينة في جرائم الإبادة الجماعية. وفي السياق المعاصر، يتطلع الكيان الصهيوني إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي باعتبارها المجال الاستراتيجي المقبل الذي ينوي استثماره لتعزيز أجندته السياسية والأمنية.
أماط تحقيق استقصائي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت اللثام عن مبادرة حكومية صهيونية تحمل تسمية «المشروع 545»، في دلالة مباشرة على تخصيصها المالي البالغ 545 مليون شيكل، ما يعادل تقريبًا 100 مليون دينار. وقد حظيت هذه الموازنة بالمصادقة من وزارة المالية، التي يديرها المجرم سموتريتش، المصنف ضمن أخطر الشخصيات على المستوى الدولي، وفق معايير غربية وشرقية على حدٍ سواء.
لم يظهر هذا البرنامج بمعزل عن سياقه، بل جاء كرد فعل استراتيجي مباشر على أزمة الشرعية المتصاعدة التي يواجهها الكيان على الصعيد الدولي في أعقاب عمليات الإبادة المرتكبة في قطاع غزة. ولذلك، تم انتقاء تسمية تقنية للمشروع بشكل متعمد، بغية حجب طبيعته السياسية والدعائية، في حين ينصب هدفه الفعلي على تحسين الصورة الدولية للكيان من خلال حملات تأثير منظمة، وصياغة الرواية الإعلامية، والهيمنة على الخطاب الإعلامي وشرائه، عبر التعاقد مع مؤسسات العلاقات العامة والإعلام الكبرى، والاستعانة بصناع المحتوى المؤثرين لإنتاج حملات رقمية وموجهة استراتيجيًّا، فضلاً عن ممارسة ضغوط منهجية على منصات التواصل الاجتماعي.
يتمحور جوهر هذا المشروع حول توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة الأهداف الصهيونية، وإنشاء نموذج صناعي متطور للتأثير السياسي يتخطى بمراحل مفهوم «الهسبارا» التقليدي كأداة للدعاية السياسية. فالمشروع لا يقتصر على صد الاتهامات الموجهة، بل يسعى إلى تشكيل منظومة خطابية شاملة، ولا يستهدف الإقناع المباشر بقدر ما يهدف إلى إغراق المشهد الإعلامي برسائل مدروسة ومستهدفة بدقة، ولا يكتفي بالدفاع عن الكيان المحتل، بل يدير بشكل احترافي سمعة كيان متهم بارتكاب جرائم حرب.
من هذا المنظور، يشكل المشروع إقرارًا صريحًا من الجانب الصهيوني بوجود أزمة شرعية عالمية عميقة تمس صورة الكيان ومكانته الدولية، وبأن طبيعة الصراع لم تعد محصورة في البعد العسكري، بل تحولت بشكل جوهري إلى معركة على مستوى الوعي والإدراك الجماعي.
سيتم توجيه هذه الحملة نحو فضاءين استراتيجيين رئيسيين: الأول يتمثل في منصات التواصل الاجتماعي، والثاني في محركات الإجابة التوليدية القائمة على الذكاء الاصطناعي. فقد أصبحت شريحة متنامية من المستخدمين تتجه مباشرة إلى أنظمة البحث الذكية، مثل ChatGPT وSiri  وDeepSeek ، لتشكيل مواقفها وآرائها حول مختلف القضايا، وهو اتجاه تعكسه محركات البحث بجلاء؛ حيث باتت مخرجات الذكاء الاصطناعي تتصدر واجهة نتائج البحث، وتتحول تدريجيًّا إلى مصدر معرفي أساسي يعتمد عليه الجمهور.
ضمن هذا الإطار، يسعى الكيان إلى فرض هيمنته على منظومات الذكاء الاصطناعي من خلال استثمار قانون تسجيل الوكلاء الأجانب (FARA) في الولايات المتحدة، الذي يفرض على شركات العلاقات العامة والأبحاث وتكنولوجيا المعلومات التسجيل رسميًا لدى وزارة العدل الأمريكية. وحين تعمل هذه المؤسسات لحساب دولة أجنبية، يتعين عليها الإفصاح عن الجهة الممثلة، والدولة الموكلة، وطبيعة الأنشطة المنفذة، والشرائح المستهدفة. وبمجرد التصريح بالعمل لصالح الكيان الصهيوني، تصبح مهام محددة، كتحسين نتائج محركات البحث والتأثير في مخرجات GPT، قابلة للإدراج ضمن إطار قانوني معلن، مما يوفر لهذه الشركات غطاءً رسميًّا يتيح لها حرية العمل في مجالات متعددة، وعلى رأسها مجال الذكاء الاصطناعي.
تأتي بعد ذلك المرحلة الأشد خطورة، المعروفة بـ»تأطير GPT» (GPT Framing)، والتي تعني التدخل الممنهج في الآليات التي تستخدمها أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي في تلخيص المعلومات واختيارها وترتيبها وإعادة عرضها كمعرفة موضوعية ومحايدة. ويمثل هذا المسار خطورة تفوق بمراحل الإعلانات التقليدية أو الأخبار أو الدعاية المباشرة، لأنه لا يقتصر على ترويج رسائل صريحة، بل يعيد هندسة البيئة المعلوماتية ذاتها التي تستقي منها محركات البحث ونماذج الذكاء الاصطناعي بياناتها في وقت واحد، بحيث تصبح رواية محددة هي الإطار المرجعي الذي تُبنى عليه التحليلات والاستنتاجات، ويُنسج من خلاله الربط بين الأسباب والنتائج.
لذا تشير الوثائق الرسمية للمشروع إلى تخصيص ميزانية شهرية قدرها 1.5 مليون دولار لمنصات وأدوات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في فهم آليات إنتاج المحتوى والتحكم في ترتيبه ومكانته وهيمنته. فلم يعد التأثير في وسائل الإعلام التقليدية كافيًا، بل بات المطلوب التدخل في الآليات التي يُبنى من خلالها محرك توليد المعلومات ذاته، وفي الكيفية التي يفسر بها الأحداث ويعرض الواقع باعتباره وصفًا طبيعيًّا قطعيًّا، لا يخضع للنقاش أو التشكيك.
لتوضيح الصورة بشكل أدق، فإن القضية لا تتعلق بالسيطرة المباشرة والصريحة، بل بالتأثير الخفي والممنهج. فكما لا يُجبر الشيطان الإنسان على فعل معين، وإنما يغرس فكرة في وعيه ويواصل تكرارها وتجميلها حتى تترسخ، فإن عملية «تأطير GPT» لا تملي على النظام ما ينبغي قوله، بل تصوغ له محيطًا معرفيًا يجعله يتعامل مع رواية معينة على أنها الواقع الموضوعي السائد. لا توجيهات مباشرة، ولا تدخلات واضحة، بل تراكم منهجي للإشارات، وانتقاء مدروس للمصادر، وتكثيف لخطاب واحد إلى أن يصبح هو «الصوت العقلاني» المسيطر. وهنا يكمن الخطر الفعلي، ليس في القوة المعلنة، بل في التأثير الخفي العميق: حين يعتقد المتلقي أن الفكرة نابعة من تفكيره المستقل، أو أن الإجابة موضوعية ومحايدة، بينما هي في واقع الأمر نتاج عملية ممتدة وصامتة ومدارة بدقة متناهية.
وهكذا يواصل الكيان إنفاق آلاف الدولارات على التغريدة الواحدة، ويمسك بخيوط منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية، ويسعى اليوم إلى السيطرة حتى على الإجابات التوليدية ذاتها. ومع ذلك، يبقى سؤال جوهري ملحًا دون إجابة حاسمة حتى اللحظة: بعد الانهيار الكبير الذي شهدته صورة الكيان على المستوى العالمي، وعلى الرغم من الجهود الهائلة التي يبذلها مع حلفائه لترميم هذه الصورة، هل لا يزال من الممكن إنقاذها؟ أم أن القطار قد غادر المحطة فعلاً؟ في كلتا الحالتين، نحن نواجه تداعيات بالغة الخطورة والعمق.