عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Jul-2022

فرنسا وإسرائيل.. أي لوبي صهيوني؟ (6): التهافت على التقنية الإسرائيلية، بأي ثمن؟

 الغد

يتسابق أصحاب الأعمال في الصناعة والخدمات إلى إسرائيل، منجذبين إلى وعود بحلول تقنية فائقة على القياس، على غرار برمجيات “بيغاسوس”. ولا يهمهم في ذلك ما إذا كان تطور الذكاء الصناعي والأمن السيبراني -اللذين يلقيان نجاحا هائلا- يتم على حساب الفلسطينيين ومن خلال قمعهم. ويبدو مناخ الأعمال بين فرنسا وإسرائيل في أفضل حالاته.
 
* *
قد يخفي التمشي على ضفة الماء مفاجآت أحياناً. بينما كنت أتجول في مدخل ميناء مدينة “فان” (شمال غرب فرنسا) في ربيع العام 2019، اكتشفت على الرصيف علماً إسرائيلياً إلى جانب الأعلام الفرنسية والأوروبية أمام سياج حوض بناء السفن “مالتيبلاست”. وتصنع هذه الشركة الفرنسية الرائدة في سوق المواد المعروفة عند محبي المراكب الشراعية، قطمرانات أسطورية. حصلت “مولتيبلاست” التي تمتلكها مجموعة “كربومان” السويسرية على مشروع تصميم جسم الطائرة “أليس” ALICE، وهي الطائرة الكهربائية الأولى التي تصممها شركة “أفييشن إيركرافت” الإسرائيلية، التي سيتم تقديمها لاحقاً في صالون “بورجيه” للطيران بفرنسا، في حزيران (يونيو) 2019، حيث سترفع بفخر ألوان عميلها الإسرائيلي. وقد احتفت الصحافة الاقتصادية بهذه “الصفحة الجديدة في تاريخ صناعة الطيران” التي كُتبت بفضل “مهارة” شركتين؛ الأولى إسرائيلية والأخرى فرنسية، وبمساهمة برمجيات “داسو سيستيمز” الفرنسية، الرائد العالمي في مجال النمذجة.
وتواصل الطائرة “أليس” طريقها منذ ذلك الوقت. فقد حصلت “آفييشن إيركرافت” على 200 مليون دولار من مستثمر من سنغافورة، بينما قدمت مجموعة أميركية حجز طلبية بـ92 طائرة بسعر يقدر بمليوني دولار. ومن المتوقع أن تدخل هذه الطائرة الصغيرة التي تتسع لتسعة مقاعد إلى الخدمة في العام 2023.
هكذا تسير أمور الأعمال في الاقتصاد المعولم. والشركات الناشئة الإسرائيلية تفتح الشهية. “تكتشف إسرائيل نفسها كموطن للشركات الناشئة، ولكن الجميع يعلم أن الفضل في ذلك يعود إلى الجيش والبحث الأكاديمي الذي يموله جزئياً”، وفق سفير فرنسي سابق في تل أبيب الذي أضاف: “تتميز العلاقات الحالية بين البلدين بشراكات تكنولوجية متعددة”. ولا حاجة إلى وجود لوبي لتحقيق ذلك؛ فالمستثمرون والمؤسسات الكبرى المجتمعة في مؤشر بورصة باريس (CAC 40) جيدون في رصد الصفقات الناجحة. وسوف يكون الطيران الكهربائي مصدر ثروة في المستقبل، كما أن الدراية الإسرائيلية المتأتية من تصميم طائرات من دون طيار واستخدامها في الأراضي المحتلة ويمولها الجيش متقدمة. ويقول رجل أعمال فرنسي يدير واحدة من 6.000 مؤسسة فرنسية موجودة في إسرائيل: “أتفهم المشكلة جيداً، ولكن لا تطلب مني حل ما لم يتوصل السياسيون إلى حله”.
دبلوماسية
الشركات الناشئة
لم تعد مسألة فلسطين في الحسبان. ويتم تفضيل “موطن الشركات الناشئة”. ويقول روني برومان، الناشط والرئيس السابق لمنظمة “أطباء بلا حدود” والمعروف بنقده لإسرائيل: “علامة “موطن الشركات الناشئة” إيجابية. إنها شكل من أشكال التواصل (التسويقي). وقد أعجب ماكرون بهذا الأمر، وكان يريد أن يصبح الشباب أصحاب ملايين”. وهي علامة كثيرة الحضور، بشكل مفرط، وبمباركة السلطات. في مذكرتها الأخيرة حول الاقتصاد الإسرائيلي والمنشورة في حزيران (يونيو) 2020، لم تُشر الإدارة العامة الفرنسية للمالية إلى فلسطين أو المستوطنات. وفي تل أبيب، تتولى خلية “أعمال فرنسا” (BUSINESS FRANCE) والهيكل المتخصص في “بيرسي” تيسير دخول الشركات الفرنسية من خلال إرشادها إلى آلاف المؤسسات الإسرائيلية.
يقول رجل أعمال فرنسي مقيم في تل أبيب: “لا توجد مجموعة فرنسية كبيرة إلا ولها شخص على الأقل في إسرائيل للاطلاع على ما يجري والاستثمار في المؤسسات الناشئة، أو شراء شركة صغيرة واعدة. لم يكن الوضع كذلك منذ عشرة أعوام”. و”التجارة هي التجارة”، يضيف هنري كوكيرمان، رئيس الغرفة الإسرائيلية-الفرنسية للتجارة والصناعة. “الحجج الوحيدة التي تأتي بنتيجة مع المؤسسات بسيطة: إسرائيل تعرض تكنولوجيا فائقة على المقاس. هناك تخط كامل للهاجس السياسي من قبل المؤسسات”. و”أن تبحث شركات عن أسواق فهذا أمر عادي في نهاية المطاف”، وفق أحد المطلعين على ملف العلاقات الفرنسية-الإسرائيلية. وكما لخص أميرام أبيلبوم الأمر، وهو موظف إسرائيلي رفيع، في كلمة أمام أصحاب أعمال من منطقة بريتاني في 2019: “تعالوا إلى هنا (إلى إسرائيل)، حيث لا حدود”.
ويواصل هنري كوكيرمان: “تم وضع دبلوماسية اقتصادية مع إرادة للتقدم. حتى أن وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومار طلب مضاعفة الاستثمارات الفرنسية في إسرائيل ثلاث مرات. إننا نأتي ببعثات من المؤسسات عندما تتاح لنا أدنى فرصة، وهذا نوع من التسويق”. وعلى غرار شبكة القيادة الأوروبية “إلنت” (ELNET)، تهوى الغرفة الإسرائيلية-الفرنسية للتجارة والصناعة تنظيم رحلات استطلاع. ويقدم موقعها (ISRAËL VALLEY) يوماً بيوم إنجازات التكنولوجيا الفائقة والصناعة الحربية الإسرائيلية اللتين تتطلعان الآن باهتمام إلى السوق المغربية بفضل التطبيع الجاري.
أيضاً، تم تسويق برمجية التجسس “بيغاسوس” التي وضعتها وسوقت لها مجموعة “إن. إس. أو” NSO الإسرائيلية (1) في عدد كبير من البلدان، ومن بينها المغرب، منذ العام 2017، وفقاً لمنظمة العفو الدولية. وقد استخدمته المملكة المغربية ضد الناشط المعطي منجب والصحفي عمر الراضي. وهذه البرمجية التي صممها خبراء حاسوب مدربون على مراقبة الفلسطينيين، وناجعة إلى درجة أنها تمكن “في مواضع عدة، من معرفة نلسون مانديلا القادم قبل أن يعرف هو ذاته أنه هو نلسون مانديلا القادم”، كما يقول ساخراً المحامي المختص في حقوق الإنسان، إيتاي ماك، بمرارة.
لا يبقى للشكوك الأخلاقية موضع عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. كما يشير إلى ذلك، تحت غطاء شديد من السرية، أحد المسؤولين في مجموعة مؤشر البورصة الفرنسي: “نحن نقوم بأعمال تجارية، على الرغم من أنني لست متأكداً من أن الأمر معلن في بعض الدول. الإسرائيليون ماهرون جداً في مجال الأمن السيبراني، وبذلك فإن الامتناع عن التعامل معهم سيكون ضد المصلحة الاجتماعية لمجموعتنا. والجميع هناك بالمناسبة”. علماً أن البعض يتساءل حول أمان “الأدوات” التي تعرضها إسرائيل والتي قد تتيح أيضاً مراقبة “الشركاء” والعملاء أنفسهم.
ويعلق أحد أصحاب الأعمال المقيمين في إسرائيل قائلاً: “يجب توخي الحذر. تشكل تكنولوجيات الأمن السيبراني سوقاً ضخمة، فهي لا تقتصر على برمجيات شركة “إن. إس. أو” والوحدة 8200 للتجسس”. الوحدة 8200 متخصصة في الشؤون السيبرانية وتضم حوالي 7.500 عسكري، وهي حاضنة المؤسسات الناشئة. ويضيف متابعاً: “95 % من الشركات الناشطة في هذا القطاع تعمل في الحماية، أي الدفاع، و5 % في الهجوم، عبر فيروسات أو برمجيات تجسس. صحيح أن هذا القطاع كان رائداً فيما يخص العلاقات مع بعض الدول العربية، وأعرف إسرائيليين يعيشون في إحداها منذ أعوام. تريد المؤسسات أن يكون الموساد عندها لحماية أنظمتها”. وتعد إسرائيل رائدة في مجال الذكاء الصناعي، وقد تم اختبار الرؤية الحاسوبية التي ظهرت في السلسلة التلفزيونية الإسرائيلية “فوضى” في الأراضي المحتلة، وهي تتيح التحكم في المعدات وقيادة الروبوتات والسيارات. ويضيف محدثنا: “هذا يهم شركات بيجو ورينو وفوريسيا. إنها سوق مستقبلية ضخمة، وهي تمثل عشرات المليارات من الدولارات، والفرنسيون مضطرون إلى التواجد فيها”.
يقول هنري كوكيرمان: “ما سيحدد فعلياً وزن فرنسا في إسرائيل هو ما إذا كنا سنحذو حذو الأميركيين، لا سيما غوغل ومايكروسوفت وآبل وآمازون وفيسبوك وتويتر، إلخ… وننشئ مراكز بحث وتطوير بآلاف الباحثين، أو أننا سنشتري مؤسسات ناشئة فقط”. في الواقع، يوجد في إسرائيل أكثر من 350 مركز بحث وتطوير تابعة لشركات متعددة الجنسيات، وهي تمثل 4.9 % من الناتج المحلي الصافي وعشرات الآلاف من الوظائف. “يتوقف هذا النجاح بالأساس على إيجاد تفاعلات مثلى بين مختلف مكونات هذا النظام، وهي المؤسسات والمستثمرون والجامعات والجيش والإدارة”، هذا ما تذكر به الإدارة العامة للمالية، من دون إعطاء أي توضيحات حول دور الجيش والتمويلات التي يقدمها. “فيما يخص هذه المواضيع، وزن الدولة مهم جداً في إسرائيل بما أنها هي العميل”، وفق صاحب أعمال فرنسي مقيم في تل أبيب.
من تاليس إلى سوديكسو مروراً بإيرباص
من الواضح أن المؤسسات الفرنسية منخرطة في المنافسة، على الرغم من أن 78 % من الذين اشتروا مؤسسات إسرائيلية في العام 2018 كانوا أميركيين. ويشتري البعض مؤسسات صغيرة، على غرار ما تقوم به شركات مثل LVMH و”تاليس”، و”هافاس” و”فوريسيا”. وينشئ البعض الآخر مخابر محلية، مثل “إس. تي. ميكروإلكترونيكس”، و”رينو-نيسان”، و”أورانج”. ويستثمر آخرون مثل “آنجي”، و”فاليو”، و”إيرباص”، و”تاليس”، و”ألستوم” في صناديق رؤوس أموال المجازفة وفي شراكات محلية. وهناك فرع مؤسسة عامة كبيرة مثل كهرباء فرنسا هو الأول محلياً في مجال الطاقة الشمسية ويمتلك محطات طاقة كهروضوئية عدة موجودة في صحراء النقب. كما أن لشركتي “توتال” و”سوديكسو” حضور كبير في إسرائيل، إذ تنتج الأولى بطاريات كهربائية من خلال شركتها الفرعية “سافت” (SAFT) وتمتلك أو تشترك في ملكية خمس محطات شمسية مع “توتال” و”إيرين”. والأخيرة، وهي رائدة سوق خدمات الإطعام الجماعي، تشغل آلاف عدة من الأشخاص في شركات فرعية محلية مختلفة، وتفخر بحيازتها عقد امتياز كافيتيريا الكنيست الإسرائيلي.
تبرز مجموعات فرنسية عدة في إسرائيل، وهي في أغلبها موجودة ضمن مجموعة مؤشر البورصة الفرنسي. وتتصرف هذه الشبكة بميزانيات ضخمة، مثل ميزانيات إعلانات كوكا كولا وشركة طيران “العال” الإسرائيلية. فيما تمتلك “ألتيس” التي يديرها باتريك دراحي، صاحب شركة الاتصالات “إس. إف. آر” والقناة التلفزيونية “بي. إم. إف”، مجموعة “هوت” HOT، العاملة في مجال الاتصالات والنقل التلفزيوني والإنتاج السمعي البصري، وقناة I24 الإخبارية الإسرائيلية. أما شركة “دانون” فهي ثاني أكبر المساهمين في “شتراوس”، وهي شركة منتوجات ألبان تصنع وتسوق ماركات عدة عائدة للمجموعة، بنسبة 20 % من رأس المال.
ولى الزمن الذي كان فيه العملاق الفرنسي، “لوريال”، الرائد في مجال مواد التجميل، يشغل شبكات مشبوهة من “العملاء” الفرنسيين السابقين من أجل محاولة الالتفاف على مقاطعة المؤسسات التي تتاجر مع إسرائيل من قبل الدول الأعضاء في الجامعة العربية، محافظاً على نصيبه من سوق هذه البلدان إلى جانب إسرائيل. وتزدهر المجموعة اليوم في العالم العربي، مع كونها تحتل المرتبة الأولى في سوق مواد التجميل في إسرائيل، حيث تشغل أكثر من 1100 عامل هناك ومصنعاً بالقرب من الناصرة.
وبما أن الاقتصاد الإسرائيلي متداخل بعمق مع الاقتصاد الاستيطاني، فإن الكهرباء التي تزود المستوطنات، واللبن وكريمات التجميل، والسندويتشات التي نجدها في المتاجر هناك، والإعلانات على الطرقات المخصصة للمستوطنين، تأتي بأرباح تعود إلى شركات عدة من عمالقة اقتصادنا (الفرنسي).
تسويات صغيرة مع الاحتلال
“لن نتسلى بمقاطعة جميع مؤسسات CAC 40″، تمزح ناشطة مؤيدة للفلسطينيين. وكان تقرير أعدته في ربيع العام 2017 “جمعية التضامن الفرنسية-الفلسطينية” و”رابطة حقوق الإنسان والكنفدرالية العامة للشغل” و”اللجنة الكاثوليكية لمكافحة الجوع ودعم التنمية” قد أشار بوضوح إلى هذا التداخل بين الاقتصاد الإسرائيلي واقتصاد الأراضي الفلسطينية. كما ألقى الضوء على استثمارات خمس مجموعات مصرفية فرنسية، في مصارف وشركات ناشطة في المستوطنات.
حالياً، تبدو هذه الاستثمارات، المتواضعة جداً، مستمرة. فشركة التأمين “إيه. إكس. إيه” انسحبت فقط من “إلبيت”، عملاق التسليح الإسرائيلي، وتوضح لنا قائلة: “لا تمول “إيه. إكس. إيه” إنتاج الأسلحة التي يحظرها القانون الدولي. وفي العام 2018، في إطار سياستنا المخصصة للأسلحة المثيرة للجدل، قررنا سحب الاستثمار في “إلبيت سيستمز” حين حازوا على شركة تصنع الذخائر العنقودية”.
وفي لائحة خاصة بـ112 شركة ذات “نشاطات في المستوطنات التي يعتبرها القانون الدولي غير شرعية”، نشرتها الأمم المتحدة في شباط (فبراير) 2020 بعد أعوام من التردد، نجد ثلاث شركات فرنسية فقط: EGIS وEGIS RAIL وهي شركات فرعية بنسبة 75 % لصندوق الودائع العام ومصنّع السكك الحديدية ALSTOM. وهذه الشركات الثلاث انسحبت من مشاريع توسيع الترام في القدس الشرقية، ولو أنه يبدو أن EGIS وSYSTRA التابعة للشركة الوطنية للسكك الحديدية الفرنسية والهيئة المستقلة للنقل في باريس، ما تزالان تقدمان خبرة تقنية في تصميم الخطوط الأربعة التي يجري النظر فيها. ويحيط صمت مطبق بنطاق هذه الاتفاقات وقيمتها المالية.
تنضوي شركتان لباتريك دراحي ضمن اللائحة الشهيرة، لكن “ألتيس” هولندية (لأسباب ضريبية) وشركة “هوت” إسرائيلية، كما هو الحال في الواقع بالنسبة لغالبية الشركات المعنية. على أي حال، لا سبب يمنع عضو جماعة ضغط من إراحة نفسهها من الضغوط، والأمر كذلك بالنسبة لمستثمر مالي يود الاستثمار في شركات ناشئة. وقد استوعب ذلك جيداً نادي الاستثمار التابع للمستثمر المالي والمناصر القوي لإسرائيل ميشال سيكورال، والذي يضم صفوة الرأسمالية العائلية الفرنسية. وقد أطلق في العام 2019 صندوقاً للأعمال السيبرانية استثمر أكثر من 60 مليون يورو في شركات ناشئة إسرائيلية. “يجب أن نجعل من الأمن السيبراني أولوية”.
عندما زار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تل أبيب في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، أطرى على محاوريه من الإسرائيليين كما هي عادته. وهكذا، سبق ذلك الذي كان يدين سلطة عالم المال خلال حملته الانتخابية، أصدقاءه المليارديرات وطلب من البنك العام للاستثمار (BPI) إنشاء صندوق للاستثمار في إسرائيل. وهكذا فإن رأسمالية الدولة وأصدقائها من الرأسمالية العائلية على الطريقة الفرنسية تستعيدان عنفوانهما في تل أبيب. الأعمال هي الأعمال.
شركتا أورانج وفيوليا،
بين الانسحاب والمقاطعة
أمام تهديد المقاطعة، وجدت مجموعتان فرنسيتان نفسيهما في موقف حرج في الأعوام الأخيرة؛ إذ صمم عملاق خدمات المرافق العامة فيوليا (VEOLIA)، إلى جانب مجموعة ألستوم (ALSTOM) الصناعية، خط الترام الأول في القدس، كما شارك في ائتلاف، نجح في الحصول على امتياز لثلاثين عاما. لكن الحملة الدولية كانت شرسة ضد هذا الخط الذي افتتح في العام 2011 والذي يربط بين غرب المدينة ومستوطنات تقع في القدس الشرقية، وأهمها مستوطنة “بسغات زئيف” التي تضم أكثر من 50 ألف مستوطن. وقد خسرت فيوليا أسواقاً في ستوكهولم في السويد، وكذلك في المملكة المتحدة وإيرلندا. وانتهى الأمر بالمجموعة إلى الانسحاب في نهاية العام 2014.
الأمر الذي رأى فيه عمر البرغوثي، وهو أحد المحركين الفلسطينيين في حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) نجاحاً لحملة “DERAIL VEOLIA” (أخرجوا فيوليا من السكة). لكن بالنسبة إلى ناطقة رسمية باسم المجموعة، “ليست الحملة ضد ترام القدس هي التي أدت إلى انسحابنا من البلد. على العكس، كان الناس ضمن المجموعة يؤمنون بشدة بهذا المشروع وكانوا يرون فيه وسيلة لتقريب الإسرائيليين والفلسطينيين من بعض وليس تقسيمهم. لقد خرجت فيوليا من قطاع النقل، لكن لم يكن ذلك نتيجة للحملة ضد وجودنا في إسرائيل، بل خيار اقتصادي متزامن معها”. بحكم الأمر الواقع، باعت فيوليا منذ تلك الفترة أنشطتها في مجال النقل المُدني، و”لم يعد لها نشاط في إسرائيل ولا مشاريع للرجوع إليها”.
وتكتسي قصة شركة “أورانج” بغرابة أكثر. فشركة الاتصالات الفرنسية التاريخية “فرانس تيليكوم” أو اتصالات فرنسا التي ما تزال الدولة مساهماً بالأغلبية فيها بنحو 23 %، وجدت نفسها في قلب معمعة سياسية وصناعية كان رهانها تواجد شركة فرعية لها في إسرائيل. وفي زيارة قام بها إلى مصر، حيث تحتل أورانج المركز الثاني في قطاع الاتصالات الخليوية، ارتكب الرئيس المدير العام للشركة، ستيفان ريتشارد، “خطأ تواصليا”، وفق المسؤول الإعلامي لأورانج الذي يتابع قائلا: “خلال مؤتمر صحفي في القاهرة، قال ستيفان ريتشارد: “إذا ما كانت أورانج تستطيع مغادرة إسرائيل غداً، سأقوم بذلك”، وهي جملة نقلتها لوكالة الصحافة الفرنسية بهذه العبارة: “أود أن أغادر إسرائيل غداً””. وفي تلك الفترة، كانت حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات تقوم بحملة ضد شركة “أورانج” وشركة “بارتنر” التي تزود المستوطنين والجنود. وقد تظاهر ناشطو حملة المقاطعة أمام محلات “أورانج” في أكثر من مدينة فرنسية. ومباشرة، انطلق الهجوم من بنيامين نتنياهو والعديد من وزرائه ضد ستيفان ريتشارد، متهمين إياه بالخضوع للتهديدات بالمقاطعة. وتعالت الاتهامات بمعاداة السامية، وما زاد وضع ستيفان ريتشارد سوءاً حديثه عن أعماله مع إسرائيل في عاصمة عربية. “خلال ساعات قليلة، أصبح ستيفان ريتشارد نصف نازي. وهاجت إسرائيل، وأصبح آخرون يقولون له: “برافو، أنت بطل فلسطيني”، وفق المسؤول الإعلامي لأورانج. ومن وجهة نظر الشركة، تعود القصة إلى العام 1998، أي حتى قبل أن تشتري مجموعة “فرانس تيليكونم” علامة “أورانج” من مجموعة بريطانية في العام 2000. كانت أورانج توزع تراخيص علامات تجارية في بعض البلدان، من بينها الهند وتايلاند وجنوب إفريقيا وإسرائيل. “في إسرائيل، كانت “بارتنر” تمتلك هذه الرخصة لكنها لم تكن تربح شيئاً، كان ذلك وضعاً خاصاً”، وفق الناطق الرسمي باسم أورانج. “طبعاً، لم يكن الأمر مناسباً بالنسبة لنا، لا سيما أن السوق الإسرائيلية للاتصالات تعد “مجزرة” في ظل أسعار منخفضة جداً وجودة متدنية للخدمات وللعلاقة مع العملاء، وهي لم تكن مطابقة لمعاييرنا. أنهينا عقد رخصة العلامة التجارية في العام 2015، مع دخول ذلك حيز التنفيذ في 2018. لا شيء يتعلق بالسياسة في كل هذا، نحن نعرف مواقف حملة المقاطعة منذ أعوام عدة، ولكننا لم نكن نستجيب لها”.
للخروج من هذا المأزق، فعّلت أورانج جميع أنواع الشبكات، وحتى من المنافس باتريك دراحي. ووصلت القضية حتى إلى رئيس الجمهورية فرانسوا هولاند. وقد اتصل بالرئيس ببنيامين نتنياهو ورتب موعداً في القدس بين رئيس الوزراء الإسرائيلي وستيفان ريتشارد. وتراجع الرئيس المدير العام للشركة. وخرجت أورانج نهائياً من “بارتنر” في العام 2018، ولكنها لم تنسحب أبداً من إسرائيل. وهي تمتلك فيها DIACESS ORCA، المتخصصة في أمن المحتويات الرقمية وحاضنة ORANGE FAB. كما راهنت شركتها الفرعية للاستثمار ORANGE DIGITAL VENTURES على شركات ناشئة عدة من بينها SECBI التي تطور خوارزميات لكشف التهديدات السيبرانية. “لدينا أيضاً شراكة مع جامعة بن غوريون، يقول أورسوني، ونحن ممولون لمركز شمعون بيريز للسلام. سبب وجودنا في إسرائيل هو الذكاء الكبير حول الشركات الناشئة”.
*جان ستارن: صحفي سابق بجريدتي “ليبيراسيون” و”لا تريبون”، متعاون مع مجلة منظمة العفو الدولية. نشر سنة 2012 كتاب “رؤساء الصحافة الوطنية جميعهم سيئون”، عن دار “لا فابريك” وفي 2017، “سراب مثلي في تل أبيب”، عن دار “ليبرتاليا”. ترجمت المقال من الفرنسية بديعة بوليلة.
هامش:
(1) انتقلت ملكيتها منذ نهاية 2019 إلى مجموعة بريطانية لكنها ما تزال موجودة في تل أبيب وتدار من هناك.