عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Aug-2025

أزمة التدين (1): التدين الشكلي والتيارات الإسلامية * د. محمد العايدي

 الغد

في خضم التحولات الكبرى التي شهدها العالم العربي والإسلامي، ظهرت تيارات دينية وحركات إسلامية تبنت تديناً جديداً، يتسم بالسطحية والشكلية، لكنه لا يمثل جوهر الدين، ولا يعبر عن عمقه ومضمونه، ولذا بات من الضروري استرجاع حقيقة الرسالة السماوية بنقائها وصفائها بدون توظيفها لصالح النوازع الإنسانية، فمشكلتنا ليست مع الدين، بل مع الكيفية التي يمارس بها التدين، وكيف تحول الدين من صانع للإنسان الكامل المتوازن بكل أبعاده، إلى أداة تعبوية وشعارات حركية وانقسامات طائفية، تنتج أنماطاً سلوكية شكلية لا ترتبط بمعانيه الروحية والإنسانية العميقة.
 
 
في مشهد التدين المعاصر تتبدى أمامنا أزمة حقيقية في تدين قاصر، قائم على الإقصاء والعداء والتكفير والتخوين، ومن أهم العوامل التي ساهمت تكريس هذا النوع من التدين هي الحركات الإسلامية المعاصرة، حيث سوقت لنسخة شكلية من الإسلام اختزلته في المظاهر والهيئات، بالتركيز على الشعارات الفضفاضة على حساب الجوهر، وحولت هذه الجماعات التدين من مشروع طويل النفس هدفه بناء الإنسان، إلى أداة لجذب الجماهير، والسيطرة على الوعي الجمعي، ولقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار هذا التدين الشكلي بسرعة كبيرة، وبطريقة وصلت إلى حد "الابتذال الديني" لمعاني الإسلام السامية.
 
هذا النمط من التدين هدفه تحقيق الولاء للتنظيم والجماعات الدينية، وإثارة الحماسة دون رشد أو تعقل، هنا تظهر أزمة التدين ليس كمشكلة فردية، بل كمأزق حضاري يضع مستقبل الأمة بأيد جشعة، تتنافس وتتصارع على تحقيق مكاسبهم الحزبية أو الطائفية، وتطمح إلى إحكام قبضتها على المجتمع، وتوجيهه بما يتناسب مع مشروعها الخاص، أو أجندتها للوصول إلى السلطة.
هكذا نشأت أزمة التدين كأحد أخطر الظواهر التي نخرت في جسد الأمة من الداخل، تحت شعار" الصحوة الإسلامية"، ولكن أي صحوة؟ إنها صحوة أقرب إلى التخدير منها إلى اليقظة والوعي الحقيقي، فهي يقظة في الظاهر وسبات في الباطن.
والخطير في هذه الأزمة أن هذه الحركات زيفت مركزية الأخلاق في الدين، فبات بإمكانك أن تكون متديناً -وفق تصورهم- دون أن تكون صادقاً أو رحيماً أو عادلاً أو إنسانياً، طالما أنك تلتزم بموقف الجماعة، وتدافع عن مشروعها، وتعادي من تعاديه.
هنا غيب الدين لصالح الجماعة، فالدين لم يعد يقاس بعمق الفهم والإيمان، ولا بصفاء الروح ونقاء القلب، بل بمدى إيمانك بمشروعهم السياسي أو الطائفي، ولو كان بعيداً عن الواقع، وعن مقاصد الدين ومآلاته، هكذا تم حشر الإسلام بزاوية ضيقة، حين تحول لحزب سياسي ينافس على السلطة، وحصره في مفهوم "الفرقة الناجية"، فيفقد قداسته وطهره، ويصير في قفص الاتهام، ويخسر عالميته، وكونه سبباً للرحمة والسلام، وبتحويل المجتمع إلى أحزاب وجماعات متناحرة.
لقد تم تسويق الدين كأنه حملة انتخابية، يراد منه نتائج سريعة فورية، ولا يطيق البناء بعمق وتأن، والمفارقة أن هذا النمط من التدين صحيح أنه يثير الحماسة، ولكنه لا يؤسس للوعي والنضج والثبات، هكذا استنزفت طاقات الأمة في الترويج إلى التدين الشكلي، والولوج في خنادق الجدل والصراع، لا في محاريب الفهم والعلم والتأمل.
بالتوازي مع هذا النمط من التدين ظهر عندنا خطابا شكليا أيضا، يتسم بالعاطفة لا بالبناء العقلي والمنهجي، ويختزل المنافسة مع الآخر بـ"معنا" أو ضدنا، ويربي الناس على الثورات السريعة والخاطفة، التي تؤجج الفتن، وتنذر بخراب البلاد والعباد.
لقد أوجد هذا التدين انفصاماً في الوعي المجتمعي بين ما يقال وما يفعل، واضطرابا في الإيمان، بحيث وجد الناس هوة بين الشعارات المطروحة والواقع الملموس، فاختلطت المقاصد والمآلات بالمراحل الآنية المعاشة، هذا كله أدخل الناس في حيرة من الدين نفسه، لماذا لم تتحقق هذه الشعارات التي نسمعها منذ عشرات السنين؟، فأدت هذه الفجوة في الخطاب السطحي اللاواعي إلى عدم ثقة بعض الناس بالدين، ولا بالمتدينين، وجر إلى عواقب الإلحاد والانسلاخ عن الدين نفسه.
في مواجهة هذا الانحدار نحتاج إلى نقد بنيوي لهذا النمط من التدين الشكلي، يعيد للدين عمقه الروحي والمعرفي وسموه الأخلاقي، تدين قابل لأن يحيى به الإنسان، وليس منفصلاً عن الواقع بشعارات استعراضية، تدين متصل بالخالق غير قابل للتوظيف أو التشويه، ولا يقصد به غير وجه الله، تدين يكون جسراً نحو السلام وتماسك المجتمع، وليس للفرز أو الانقسام.