عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Nov-2025

"العناب المر".. رحلة فلسطينية بين التاريخ والواقع الإنساني

 الغد-عزيزة علي

 صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية ضمن برنامج الحفاظ على الرواية، عمل أدبي استثنائي يروي حكاية المكان والزمان والإنسان الفلسطيني، بعنوان "العناب المر"، للكاتب أسامة مغربي.
 
 
الرواية توثق مذكرات وآلام أجيال عاشت في ظروف صعبة، وتعيد إلى الوعي ذاكرة شعبٍ لم ينل نصيبه من العدالة بعد، وتُظهر رحلة الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وحفظ هويته، وصراع الأجيال بين الهزيمة والإيمان بالحرية.
رواية العناب المر ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي رحلة إلى قلب الفلسطيني وذاكرته؛ فهي فصل صغير من مسيرة طويلة لم تنته بعد، تواصل الحفاظ على دفء الماضي وتوثق صمود الأجيال في زمن كاد أن يطويه النسيان.
أهدى المؤلف الرواية قائلاً: "إلى أولئك الأبطال، الذين لم تصل مذكراتهم إلى فلسطين، عشقنا الذي لا ينتهي".
يذكر مغربي في مقدمة الرواية أنه كتبها قبل 24 عاماً، واكتمل إنجازها تحديداً في نيسان 1994، في سجن جنيد المركزي (قسم 4، غرفة 2).
 ويضيف: العودة إلى البدايات شيء جميل، لأننا، بكل واقعية، نسينا بداياتنا. ولن أتجنى على الحقيقة إذا قلت إن البداية لم تنطلق من هناك فقط، بل كانت قبل ذلك بكثير.
ويشير إلى أن الانتفاضة الشعبية عام 1987، والمعروفة بـ"انتفاضة الحجر"، كانت أجمل وأروع ظاهرة عرفها تاريخ الشعب الفلسطيني، خصوصاً في سنواتها الأولى، وكان لها أكبر الأثر على التطورات السياسية اللاحقة.
ويقول مغربي إن أكثر ما شدني في الرواية، رغم أنني نسيت تفاصيلها، هو حوار الأجيال. أحسست بمقاربة عجيبة، كأن التاريخ يكرر نفسه هذه الأيام. تساءلت حينها: كنا نسمي الجيل القديم "جيل الهزيمة"، فهل أصبحنا اليوم، بعد تجربتنا المريرة، جيلاً آخر للهزيمة؟ هل فقدنا الإيمان بأهدافنا؟.
من ناحية شخصية، أرى أن الإيمان لا يتغير، وأن المؤمنين بالعدالة لا يقبلون الهزيمة. لقد ظلمنا الجيل القديم بهذا المسمى، ولم نعذر الظروف القاسية التي مرّوا بها.
أما بالنسبة لأبطال الرواية، فقد كان البطل تراكميًا جماعيًا شارك فيه الجميع، من خلال الاحتضان والحماية والدعم المعنوي.
وكانت المرأة حاضرة بقوة في الرواية، بإحساس عالٍ، شريكة في النضال والمعاناة، بزغرودتها التي ألهبت روح العمل الثوري، وودعت الشهداء، واحتضنت المطاردين. كما تطور دورها الاجتماعي ونمط تفكيرها، خصوصًا في المجتمع الريفي، لتؤكد حضورها الفاعل والمؤثر.
أما الرومانسية العنيدة والحب المستحيل، فشكلت تفاعلات قوية ذات إحساس إنساني عميق، فرضت نفسها على تفاصيل الرواية.
ويقول مغربي في الرواية: مع اعتذاري عن المشاهد العنيفة، فإنها كانت جزءًا من الواقع في ذلك الوقت. فموضوع العملاء، رغم أنه قد ينكأ جراح الكثيرين، كان واقعًا اجتماعيًا لا يمكن تجاهله، مع الإشارة الواضحة إلى عدم تعميم ظاهرة الخيانة على بقية أفراد العائلة.
ويبرز التناقض في الشخصيات التي تتفاعل مع مشاعر الحب والعدالة وتمارس العنف، من خلال الحوار مع النفس وما يترتب عليه من عقدة الذنب التي لازمت بعض أبطال الرواية.
وكحال جميع الثورات، لم تكن ثورتنا مثالية أو تحظى بترحيب الجميع. فسلبيات الانتفاضة وانعكاساتها على المجتمع كانت حاضرة في بعض التفاصيل والحوارات.
وأجمل ما في الرواية أنها توثق دراما قريبة من الواقع في زمن قد طواه النسيان، فهي مذكرات لم تصل إلى أبطال كان على عاتقهم حمل كبير.
أما نهاية الرواية، فظلت عالقة في بداياتها؛ فقد انطلق الحلم الفلسطيني على طريق طويل مليء بالأشواك، وما كانت الرواية إلا فصلاً صغيرًا جدًا في مشوار طويل لم ينته بعد.
وفي جزء من الرواية، يكتب الروائي: "يمر الوقت، ولا شيء من عمر الزمن يتنفس الصبح. إنها نائمة بسقوفها ومآذنها الطويلة، يشق الرعاة دروب الجبل، ويعلو الضجيج في الأسواق".
يتفقون على أن اسمها "الحميدية"، واختلفوا في سبب التسمية، كما هي عادة المؤرخين والرواة. والأكثر شيوعًا أن قبيلة تدعى الحميدية قدمت من الجزيرة العربية في زمن ما واستقرت في هذه المنطقة القريبة من جبل النار، التي تنام بين غابات الزيتون واللوز والصنوبر. هناك خمسة آلاف نسمة يترددون تحت سقوفها، ويقتسمون حواريها الأربعة، وتتفرع منهم أربع حمائل هي، بالترتيب من حيث العدد: "السعدية، الشامية، اشتيوي، عامر".
تكثر أزقتها وكذلك الطوابين، ويتكلم أهلها بلسان الديار الدارج، بلغة الريفيين البسيطة الصالحة لنسج أغاني العتابا والميجنا وزريف الطول و"أبو الزلف".
الماء شحيح في الحميدية، هناك نبعة: "أبو صالح" و"عين السمرة"، التي طالما ارتادتها الصبايا، فكانت مكانًا لأجمل قصص العشق والغرام. لكن هذه الأيام خفت الارتقاء إليها، فالناس يكتفون بالآبار التي يملؤونها من ماء الشتاء، أو يشترون الماء من الصهاريج التي تُجلب من ينابيع بعيدة.
في مطلع السبعينيات، صادرت سلطات الاحتلال ثلثي أراضي الحميدية التي تمتد حتى نهر الأردن، على يد العصابة الصهيونية المتطرفة "غوش أمونيم"، التي نشطت في الاستيلاء على الأراضي بمساعدة السماسرة. وكان هناك دوار كبير لمختار الحميدية، أبو علاء السعدية، بينما قام المستوطنون بإنشاء مستوطنة "غيشم"، على أراضي القرية المصادرة. بقيت الحميدية بجدرانها وسقوفها وجبالها وما تبقى من أراضٍ قليلة.
إنها كأي قرية فلسطينية، بملامحها وبساطتها، وجمالها البريء، وزيتونها الأخضر، وسكانها البسطاء وتراثهم الرائع الذي ينعكس في أعراسهم ومواسمهم وطعامهم وحكاياتهم الليلية التي يحضر فيها الجن والغولة والشاطر حسن.
وفي زمن العبور إلى وجهها الآخر، تمخر الحميدية عباب البحر وتمطي كل الموجات، وتُعانق الشمس في كبد السماء شراعها. وكما تتصارع الأفكار، وتمامًا كاختلاف كل المشاعر الجياشة، وتدور الألوان في قوس المطر، تصارعت الأحداث في الحميدية.
الحميدية ليست مجرد انبعاث، إنها امتداد قسري للتاريخ على هذه الأرض.