عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Oct-2024

"أيام الفيلم الكوري" يأخذ الجمهور برحلة إبداع واستشكاف ثقافي

 الغد- إسراء الردايدة

 إن عالم السينما الكورية بعمقها وتنوعها وقصصها الجريئة هو عالم من السرد القصصي الذي يصل إلى قلوب المشاهدين متجاوزا الحدود الجغرافية والثقافية، التي سيتعرف عليها الحضور لأيام الفيلم الكوري التي انطلقت أمس، في "سينما تاج" بعمان لتقدم تجربة غامرة لمشاهدي الأفلام.
 
 
 
يعرض المهرجان ثلاثة أفلام مختارة بعناية: اليوتوبيا الخرسانية، عداؤو منتصف الليل، وما أجمل الحياة!، وهي أفلام تعرض مجانًا للجمهور، مقدمة لمحة عن أسلوب السرد الفريد الذي يميز السينما الكورية، ويجعلها متفردة على مستوى العالم.
 
 
وقد أصبحت السينما الكورية الجنوبية المعروفة بتصويرها الصريح للمشاعر الإنسانية وغوصها في القضايا المجتمعية ظاهرة عالمية. ومع تاريخها الذي يعود إلى عشرينيات القرن العشرين، اجتاز صانعو الأفلام الكوريون فترات من التقييد والرقابة والتحديات الاقتصادية، لكن هذه العقبات لم تزدهم إلا براعة في سرد القصص. 
 
 
وقد أثرت الموجة الكورية، أو ما يُعرف بـ"هاليو"، التي يدفعها مزيج فريد من العمق الثقافي والتعليقات الاجتماعية، على السينما العالمية، متجاوزة حدود النوع والأسلوب. ويتفوق المخرجون الكوريون -مثل بونغ جون هو وبارك تشان ووك ولي تشانغ دونغ- في تصوير التيارات الاجتماعية الخفية من خلال قصص مثيرة ومظلمة وحميمية في الوقت نفسه.
 
 
ورحلة السينما الكورية هي حكاية صمود وإبداع واستكشاف ثقافي. بدأت أول الأفلام الكورية في عشرينيات القرن الماضي، ورغم قلة الموارد، نجحت في توظيف الفولكلور والثقافة الكورية في التعبير عن مقاومة مستترة خلال فترة الاحتلال الياباني. وبعد الحرب الكورية، حصلت السينما على أبعاد جديدة، معبرةً عن تحديات وآمال المجتمع الكوري في ظل عملية إعادة البناء. كان هذا العصر هو "العصر الذهبي" للسينما الكورية، حيث تميز بالأفلام الميلودرامية التي جسدت حياة الكوريين اليومية وصراعاتهم وتطلعاتهم.
 
 
وتغيرت المناخات السياسية، ورافقها تحول في صناعة الأفلام. وبحلول الثمانينيات والتسعينيات، فرضت الرقابة سيطرتها، لكن هذا القيد أدى إلى صقل موهبة صناع الأفلام، حيث تعلموا العمل داخل حدود معينة والالتفاف حولها بذكاء. 
 
 
وقد مهدت هذه الحقبة لظهور "الموجة الكورية الجديدة"، حركة انطلقت في أواخر التسعينيات وغيرت نظرة العالم إلى السينما الكورية. انطلق مخرجون مثل بونغ جون هو، بارك تشان ووك، ولي تشانغ دونغ، لإنتاج أفلام تخترق الأنماط المعروفة وتتناول القضايا الاجتماعية بأسلوب جريء.
 
 
وتتألق السينما الكورية في مزج الأنواع السينمائية، حيث تنسج في رواياتها الرعب، الرومانسية، والكوميديا لتعكس تعقيدات اجتماعية عميقة. تتناول الأفلام الكورية قضايا الفوارق الطبقية، الفساد، وتناقضات الأخلاق، لتخلق تجارب تفكير عميقة لمشاهديها. على سبيل المثال، الطفيلي بطرحه الرائع للهرمية الاجتماعية، والمضيف، وهو فيلم رعب كوميدي يتناول انتقاد ردود الأفعال الحكومية، يجسدان هذا الأسلوب بشكل بارع. 
 
 
كذلك، تبرز أفلام كوريا الجنوبية من خلال حبكاتها التي تركز على الشخصيات، حيث تدعو الجمهور إلى الدخول في صراعاتهم الشخصية. ولا تقتصر على تقليدية البطل والخصم، بل يقدم صناع الأفلام شخصيات معقدة أخلاقيًا تدفع الجمهور للتفكير والتساؤل حول الطبيعة البشرية ومناطقها الرمادية.
 
 
وأنتجت الأفلام الصامتة المبكرة في كوريا الجنوبية في عشرينيات القرن العشرين، على الرغم من أن الصناعة واجهت تحديات في ظل الاحتلال الياباني (1910-1945). وغالباً ما أدرج صانعو الأفلام عناصر من الثقافة الكورية التقليدية والفولكلور، للتعبير بمهارة عن الإحساس بالهوية الوطنية.
 
 
وبعد الحرب الكورية (1950-1953)، شهدت السينما الكورية الجنوبية "العصر الذهبي" مع تدفق الأفلام التي ترعاها الدولة بهدف تعزيز الهوية الثقافية وإعادة البناء بعد الحرب.
 
 
وبدأ مخرجون مثل كيم كي- يونغ (الذي اشتهر بفيلم خادمة المنزل، 1960) ويو هيون - موك في استكشاف روايات معقدة تتناول القضايا الاجتماعية والعائلية، مما مهد الطريق لسينما أكثر استبطانا ونقدا.
 
 
وكانت أفلام الميلودراما شائعة بشكل خاص خلال هذه الفترة، مما يعكس الصراعات الاجتماعية والاقتصادية في كوريا ما بعد الحرب.
 
 
الرقابة والتحديات الاجتماعية
خضعت كوريا الجنوبية لرقابة شديدة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات مما حد من نطاق سرد القصص. ومع ذلك، قاوم صانعو الأفلام بشكل خلاق، من خلال استكشاف موضوعات الحب والبقاء على قيد الحياة والأسرة. وشهدت هذه الحقبة بدء المخرجين في تخطي الحدود بطرق أكثر دقة، مما أرسى الأساس للموجة الكورية الجديدة لاحقا.
 
 
وتميزت الموجة الكورية الجديدة (أواخر التسعينيات- 2000)، التي بدأ فيها صانعو الأفلام الكوريون في مزج الأنواع السينمائية -المزج بين الرعب والكوميديا والرومانسية والحركة- لإنتاج أفلام تتحدى التصنيف السهل. 
 
 
وركزت العديد من أفلام الموجة الجديدة التأثيرات النفسية والاجتماعية للتحديث السريع والتحضر والديناميكيات المعقدة للهوية الكورية المنقسمة (كوريا الشمالية مقابل كوريا الجنوبية).
 
 
ويتفوق المخرجون الكوريون في المزج بين أنواع مختلفة من الأفلام، مما ينتج عنه أفلام يمكن أن تكون كوميدية وتراجيدية ومثيرة في آن واحد. وغالبا ما تقدم السينما الكورية شخصيات معقدة أخلاقيًا تتحدى النماذج التقليدية للبطل والشرير.
 
 
ويبتكر صانعو الأفلام شخصيات مدفوعة بدوافع شخصية وضغوطات مجتمعية ومعضلات أخلاقية، مما يجبر الجمهور على الانخراط ضمن مستوى أعمق. كما تتسم السينما الكورية بقوة السرد القصصي المرئي والرمزية، حيث يعطي المخرجون الكوريون الجنوبيون الأولوية للسرد القصصي البصري، وغالباً ما يستخدمون التصوير السينمائي والرمزية لنقل معان أعمق.
 
 
الأفلام
اليوتوبيا الخرسانية: دراسة للبقاء والانهيار الأخلاقي يقدم فيلم اليوتوبيا الخرسانية (2023)، من إخراج تاي-هوا يوم، سردًا بائسًا يستكشف الخط الرفيع بين النظام المجتمعي والانهيار الأخلاقي حين يصبح البقاء الهدف الأسمى. تدور أحداث الفيلم في عاصمة سيول التي دمرها زلزال هائل، حيث يحاصر الفيلم شخصياته في المبنى الوحيد الذي نجا، وهو شقق هوانغ غونغ. يصبح هذا المجمع السكني عالماً مستقلاً، حيث تتلاشى القيم المجتمعية سريعًا تحت وطأة اليأس. 
 
 
يقود سكان المبنى يونغ تاك، الذي يجسده لي بيونغ هون بمهارة مشبعة بالرعب، ليشكلوا هرمية صارمة تستبعد كل من لا ينتمي لمجتمعهم. ويصبح هذا الاستبعاد أسلوبًا للبقاء، محولًا المجتمع إلى حصن مترع بالصراعات الأخلاقية.
 
 
إخراج يوم يجسد براعة في بناء التوتر، حيث يستغل الموقع المغلق لزيادة التوتر النفسي. ويمنحنا التصوير السينمائي اللقطات الضيقة والأجواء المظلمة إحساسًا بالاختناق، محاصرًا الشخصيات والجمهور على حد سواء في هذا الحصن المتدهور. اليوتوبيا الخرسانية ليس مجرد فيلم كوارث، بل يمثل نقدًا اجتماعيًا، حيث يرمز المبنى نفسه إلى نزعات العزلة في المجتمع الحديث. تعكس حبكة الفيلم انقسامات الطبقات في العالم الواقعي، حيث يلمح الفيلم إلى أزمة الإسكان في كوريا وتعميق الفجوة بين الأغنياء والمهمشين.
 
 
ومع سيطرة غريزة البقاء، يتحول اتجاه البوصلة الأخلاقية لسكان المبنى، مما يؤدي إلى مجتمع منقسم تحكمه المخاوف. ويثير هذا المجتمع "المصغر"، تساؤلات حول الطبيعة الحقيقية للإنسانية عندما تجرد من القواعد المجتمعية. 
 
 
عداؤو منتصف الليل: الكوميديا تمارس النقد الاجتماعي 
يضيف فيلم عداؤو منتصف الليل (2017)، بتوجيه من جو هوان كيم، تنوعا منعشا في أيام الفيلم الكوري، حيث يمزج بين الكوميديا والحركة مع نقد اجتماعي خفيف. الفيلم يتبع اثنين من طلاب أكاديمية الشرطة، كي-جون (بارك سيو-جون) وهي-يول (كانغ ها-نيل)، اللذان يجدان نفسيهما في قلب قضية خطف. بروح الشباب وإرادة لا تعرف الاستسلام، يقرر الثنائي التدخل بنفسيهما بعد أن عانيا من بطء استجابة البيروقراطية لإتمام عملية الإنقاذ. يستكشف الفيلم نضوج الشخصيتين، حيث يتعاملان مع مسؤولياتهما وصداقتهما تبنيها الصعوبات، مع استكشاف الأبعاد الأخلاقية لأفعالهما.
 
 
أسلوب كيم في الإخراج، يجلب سردًا مرحًا لكنه عميقا، حيث يوازن بين لحظات الفكاهة وتسلسلات الحركة المكثفة. التفاعل بين بارك سيو-جون وكانغ ها- نيل هو عنصر جذب رئيسي، حيث يخلق التباين بين شخصيتي كي-جون الشجاع المندفع وهي- يول الحذر الواقعي ديناميكية ممتعة ومثيرة. صداقتهما تضيف عمقا للفيلم، حيث تقدم مواضيع عن الولاء والتحدي، بينما تطرح نقدا لنظام الشرطة البطيء وغير الكفء.
 
 
يتجاوز الفيلم إطارا "الأكشن والكوميديا"، ليعكس إحباطات المجتمع من البيروقراطية وعدم اكتراثها، وهو موضوع متكرر في السينما الكورية الجنوبية. نال الفيلم إشادة النقاد لموازنته بين الترفيه والنقد الاجتماعي، حيث يجعل نفسه متاحًا للجمهور ويشجعه في الوقت نفسه على التفكير في إمكانية تأثير المواطنين العاديين. 
 
 
ما أجمل الحياة!: رحلة موسيقية في الحب والذاكرة
ما أجمل الحياة! (2022)، من إخراج كوك هي تشوي، هو استكشاف مؤثر للحب والذاكرة والقبول، ضمن إطار موسيقي ساحر. يتبع الفيلم قصة سي- يون (يوم جونغ آه)، التي تواجه مرضا نهائيا، فتشرع في رحلة مع زوجها جين بونغ (ريو سونغ ريونغ)، للعثور على حبها الأول. أثناء رحلتهما واسترجاعهما للأماكن من ماضيها، يمر الثنائي بتجارب عاطفية، يواجهان مشاعر مطمورة، ويجدان السلام الداخلي في النهاية.
 
 
اختيار تشوي للنوع الموسيقي يعزز من تأثير الفيلم العاطفي، حيث تتيح الأغنيات للشخصيات التعبير عن مشاعر معقدة. كل مقطع موسيقي، يمثل جزءًا من ذكريات سي-يون، ليصبح جهازًا سينمائيًا يجسد حياتها الداخلية. هذه اللحظات الموسيقية، المعززة بألحان تقليدية كورية، تعكس شعورًا بالحنين وتعظم من جمال الرحلة التي تعيشها سي- يون. وقد أشاد النقاد بجودة الفيلم الشعرية، مشيرين إلى أن الموسيقا تعمل كلغة عاطفية عالمية، تدعو الجمهور إلى الانغماس في تجارب البطلة.
 
 
التصوير السينمائي في ما أجمل الحياة! يأسر المشاهد بمناظره الطبيعية الخلابة وأجوائه الحميمية، التي تعكس الرحلة العاطفية للشخصيات.