عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Sep-2025

"الأولى بين أنداد": من أجل دولية واقعية جديدة

 الغد

 ترجمة: علاء الدين أبو زينة
دانييل لاريسون* - (ريسبونسيبل ستيتكرافت) 2/9/2025
 
في كتابها الجديد، تتحدّى إيما أشفورد الإفراط الأميركي في التمدد العالمي وتقدّم بديلًا مناسبًا للعمل في عالم جديد متعدد الأقطاب.
 
انتهت لحظة أحادية القطبية، ويتعيّن على الولايات المتحدة أن تكيّف سياستها الخارجية مع عالم يزداد تعدديةً في الأقطاب. لم تعد الاستراتيجية القديمة، المفرطة في الطموح، والقائمة على الهيمنة الليبرالية، مناسبة للحقائق الجديدة التي جلبها القرن الحادي والعشرون. وبالإضافة إلى ذلك، أصبحت الولايات المتحدة مفرطة في التمدد بشكل سيئ ومثقلة بالتزاماتٍ تفوق طاقتها في مختلف أنحاء العالم، وهي في حاجة إلى رسم مسار مختلف إذا ما أرادت أن تزدهر في العقود المقبلة.
للوفاء بمتطلبات هذا الاحتياج، تُقِيم إيما أشفورد -الزميلة البارزة في مركز ستيمسون- القضية لضرورة وضع استراتيجية كبرى جديدة براغماتية تقوم على "دُولية واقعية" realist nationalism في كتابها القيم: "أولى بين أنداد: السياسة الخارجية الأميركية في عالم متعدد الأقطاب" First Among Equals: U.S. Foreign Policy in a Multipolar World.
ينقسم الكتاب إلى نصفين. ويتناول القسم الأول تاريخ السياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، وكيف أخذت لحظة الأحادية القطبية في التلاشي تدريجيًا لتحلّ محلها "تعددية غير متوازنة". وفي هذه التعددية غير المتوازنة، تبقى الولايات المتحدة والصين هما "القوتان الغالبتان"، لكن هناك أيضًا العديد من "القوى الثانوية القادرة من الطبقة الثانية" المؤلفة من حلفاء للولايات المتحدة وقوى صاعدة أخرى.
تُقدم أشفورد حجة قوية تؤكد أن هذه التعددية القطبية حقيقية، وأن على الولايات المتحدة أن تغيّر أسلوب عملها في العالم لكي تزدهر في ظل هذه الظروف الجديدة. بدلًا من السعي وراء الهيمنة و"القيادة" العالمية، تحثّ أشفورد الولايات المتحدة على تعزيز التعددية القطبية وتشجيع الحلفاء على أن يصبحوا أقل اعتمادًا على أميركا.
أما النصف الثاني من الكتاب، فيعرض دفاع أشفورد عمّا تسميه "الدُّولية الواقعية". وسوف تكون الخطوط العريضة للدُّولية الواقعية مألوفة لمناصري سياسة الانضباط والتقييد، وهي في مجملها منسجمة مع ما اقترحه معظم هؤلاء المناصرون في السنوات الأخيرة. بإيجاز، سوف تقلّص الولايات المتحدة، في ظل الدُّولية الواقعية، وجودها العسكري بشكل كبير في كل من أوروبا والشرق الأوسط، وتنقل عبء الأمن إلى الحلفاء الأثرياء والقادرين حيثما كان ذلك ممكنًا، لكنها ستزيد في المقابل من مواردها الكليّة وانتباهها المخصَّصَين لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
سوف تظل الولايات المتحدة منخرطة في المنطقتين الأوليين، لكن ذلك سيتخذ في الأساس شكل الدبلوماسية والتجارة. وسيكون هناك أيضًا استثمار أكبر في أدوات السياسة غير العسكرية، وتحوُّل بعيدًا عن الإكراه الاقتصادي نحو انخراط اقتصادي أعمق مع العالم. وستكون السياسة الخارجية الأميركية أقل عسكرةً، لكنّ الانخراط الأميركي سيستمر -بل سيتكثف في بعض الجوانب. وكما تقول أشفورد: "انخراط -وإنما بأهداف أكثر محدودية بكثير- هي كلمة السر في هذا الكتاب".
أصبح الاتجاه الذي يجب أن تسلكه السياسة الخارجية الأميركية مطروحًا اليوم أكثر من أي وقت مضى على طاولة النقاش، وهناك مسارات عديدة مختلفة يمكن أن تسلكها الولايات المتحدة. وفي أحد الفصول المبكرة، تستعرض أشفورد هذه البدائل من خلال إلقاء نظرة عامة على أربع مجموعات متنافسة تسعى إلى تشكيل مستقبل السياسة الخارجية الأميركية.
ترى أشفورد أربعة متنافسين رئيسيين في النقاشات الحالية حول السياسة الخارجية: دعاة الهيمنة في إطار النظام الليبرالي؛ وصقور "أميركا أولًا"، وبنّاؤو العالم التقدميون، والواقعيون الانضباطيون. وهي تعرّف كل مجموعة من خلال التعرُّف إلى كيفية مقاربتها للأسئلة الأساسية المتعلقة بدور الولايات المتحدة في العالم، بما في ذلك، من بين أمور أخرى: كيف تفهم كل مجموعة المصالح القومية الأميركية؛ وأي المناطق هي التي تعطيها الأولوية؛ وما هو مقدار الوجود العسكري المتقدّم الذي تدعمه؛ وما هي رؤيتها للحلفاء؛ وما هو مدى استعدادها لاستخدام القوة.
"الأول بين أنداد" هو دفاع عن سياسة خارجية منضبطة، لكنّ تحليل أشفورد لنقاط القوة والضعف في هذه المجموعات متوازن. وهي تلفت الانتباه إلى عيوب كل مقاربة، وتعترف بأن لكل استراتيجية مخاطرها ومزالقها المحتملة. وسوف يجد دعاة التقييد والانضباط أن معظم -أو جميع- توصيات أشفورد السياسية في القسم الثاني من الكتاب تلائمهم، لكن هذا الكتاب ليس موجّهًا فقط إلى أنصار الواقعية والتقييد.
كما تعترف أشفورد، ثمة بعض التداخلات المهمة بين الواقعيين المقيِّدين وبنّائي العالم التقدميين، والتي يمكن أن تجعلهم حلفاء في النضال من أجل جعل السياسة الخارجية الأميركية أكثر سلمية وأقل تدميرًا. قد تكون للواقعيين المقيِّدين وللبنّائين التقدميين أهداف نهائية مختلفة في ما يخص السياسة الخارجية الأميركية، لكنهم يتشاركون في معارضة النزعة العسكرية والتدخل في شؤون الدول الأخرى، وهو ما يضعهم على الجانب نفسه من الكثير من النقاشات السياسية الجارية.
كشأن عملي، إذا كان للواقعيين من دعاة التقييد أن يحرزوا أي تقدم نحو تحقيق ما يشبه الدولية الواقعية، فإنهم سيحتاجون إلى شركاء من اليسار لتحقيق ذلك. وكما تقول أشفورد، فإنه "إذا كان من المقرر تنفيذ استراتيجية دولية واقعية، فسيكون من الضروري على الأرجح أن تستمد دعمًا من بعض الشرائح في الحزبين معًا -لا من حزب واحد فقط".
ربما يكون نقاش المقترحات المتعلقة بالانسحابات الأميركية من أوروبا والشرق الأوسط من أفضل أجزاء الكتاب. هنا بالضبط تنفصل الدولية الواقعية عن الوضع القائم بأكبر قدرة من الحدة، حيث تحدث تغييرات تمس الحاجة إليها منذ وقت طويل. تقترح أشفورد ألّا يكون للولايات المتحدة وجود عسكري مهم في أوروبا خلال عشر سنوات. وإذا بدا ذلك متطرفًا، فكِّر فقط بكم هو غريب أن تحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري كبير في أوروبا بعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفياتي. إنه تصحيح مستحق طال تأجيله.
وفي ما يخص الشرق الأوسط، تجادل أشفورد بأن على الولايات المتحدة أن تسحب قواتها البرية وتغلق معظم قواعدها في المنطقة خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، وأن تُبقي فقط قوة بحرية صغيرة لحماية خطوط الملاحة. وهي محقّة في رفض ربط هذه الانسحابات بشروط. كلما كان الانسحاب "مشروطًا"، أصبح ذلك ذريعة لتأجيله إلى أجل غير مسمى.
سوف تكون الدولية الواقعية التي تقترحها أشفورد بمثابة تحسين هائل للوضع القائم. سوف تستفيد الولايات المتحدة من خلال تعريف مصالحها بشكل أضيق وتقليص التزاماتها الأمنية. وستكون أقل احتمالًا للانخراط في حروب غير ضرورية أو بدئها، ولن تضطر إلى الحفاظ على وجود عسكري ضخم في الخارج. وإذا كانت الولايات المتحدة بصدد تعزيز التعددية القطبية، فإنها لن تشنّ حروبًا اقتصادية عبثية ضد البرازيل والهند، بل ستسعى بدلًا من ذلك إلى تعزيز روابطها معهما. وإذا ابتعدت الولايات المتحدة عن استخدام العقوبات، فإنها لن تُنزِل عقوبة جماعية بعشرات الملايين من البشر حول العالم.
سوف تكون الدولية الواقعية استراتيجية أكثر براغماتية وتقييدًا للولايات المتحدة، كما ستكون أقل ميلًا إلى إلحاق الضرر بالدول الأخرى.
يشكل "الأولى بين أنداد" إسهامًا مهمًا في النقاش حول اتجاه السياسة الخارجية الأميركية. وقد أنجزت أشفورد عملًا ممتازًا في رسم ملامح ما ستكون عليه استراتيجية أفضل وأكثر تقييدًا في الممارسة. وسيكون من الحكمة لصانعي القرار الأميركيين أن يقرأوا هذا الكتاب وأن يتبعوا توصياتها.
 
*دانييل لاريسون Daniel Larison: كاتب عمود منتظم في موقع "فن الحكم المسؤول" Responsible Statecraft، ومحرر مساهم في موقع مناهضة الحرب Antiwar.com. كان محررًا أول في مجلة "المحافظ الأميركي" The American Conservative. حصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة شيكاغو. 
*نشرت هذه المراجعة تحت عنوان: 'First Among Equals': The case for a new realist