الغد
«الإبستيموسايد» Epistemicide مصطلح مركب من الكلمتين اليونانيتين «إبستيمي» (المعرفة) و»سايد» (القتل) -بالعربية «القتل المعرفي»، أو «الإبادة المعرفية». ويصف المصطلح عملية إبادة ممنهجة للمعارف والثقافات غير الغربية أو غير المهيمنة، سواء بالإهمال أو التشويه أو التهميش، أو من خلال إعادة صياغة تلك المعارف ضمن أنساق تخدم السلطة القائمة. ولا يتحدث هذا المفهوم عن غياب التنوع المعرفي فحسب، بل عن قتل متعمد للأنماط المعرفية الأصلية، المحلية، أو «الجنوبية»، لصالح منظومة معرفية واحدة تدعي لنفسها العالمية، بينما تنطلق في الحقيقة من مركزية أوروبية صريحة.
تعود الجذور النظرية لمفهوم الإبستيموسايد إلى الحوارات الفلسفية التي ظهرت مع نقد الاستعمار، خاصة في فكر «ما بعد الكولونيالية»، حين بدأ مفكرون مثل فرانز فانون، وإدوارد سعيد، وغاياتري سبيفاك، في استنطاق الكيفية التي يُعاد بها إنتاج العالم معرفيا في مركز واحد منفرد، يستخدم سلطته ليُعطي لنفسه حقا حصريا في التسمية والتصنيف والتفسير. لكن صياغة مصطلح «الإبستيموسايد» تحديدا ارتبطت بمفكرين بارزين من المدرسة اللاتينية في نقد المعرفة الكولونيالية، مثل الأكاديمي البرتغالي بوافينتورا دي سوسا سانتوس؛ والكولومبي سانتياغو كاسترو-غوميز؛ والمكسيكي إنريكي دوسيل، والمفكر البيروفي أنيبال كيخانو، والمفكر الأرجنتيني والتر منيولو، من بين آخرين. وقد ركز هؤلاء المفكرين على الكيفية التي أباد بها الاستعمار الأوروبي -تحديدا الإسباني والبرتغالي- النظم المعرفية الأصلية في أميركا اللاتينية.
جرى في أميركا اللاتينية، مع الغزو الإسباني، تدمير آلاف الكتب والرموز والمعابد والمخطوطات للشعوب الأصلية (المايا والأزتيك والإنكا)، وتم استبدال نظرتهم إلى العالم بنظرة مسيحية أوروبية صارمة. كما أجبر السكان على التخلي عن لغاتهم وتقاليدهم التاريخية، باعتبارها «وثنية» أو «جاهلة». ولم تكن هذه العملية عنفا ثقافيًا فحسب؛ كانت أيضًا عنفًا معرفيًا: عملية ممنهجة تقصد إلى نزع القيمة والشرعية عن المعرفة الأصلية.
حسب البرتغالي بوافينتورا دي سوسا سانتوس، لا تكتفي المعرفة الغربية الحديثة باحتكار إنتاج المعرفة، بل تقترن بما يسميه «الجهل المُصنَّع»، الذي تميِّز في سياقه بين «معرفة مركزية» و»معارف مهمشة». وتخضع الأخيرة للإقصاء والحذف –أو حتى إعادة إنتاجها بطرق لا تُعبّر عن جذورها ولا عن أصحابها الحقيقيين. وبهذا المعنى، لا يكتفي «الإبستيموسايد» بتدمير المعارف البديلة، وإنما يذهب إلى تدمير الطرق المختلفة في فهم العالم: أنماط التفكير، والتأويل، والتدين، والطب والتربية -وحتى الرؤية الكونية للوجود. ويشير سانتوس إلى أن «الحداثة» الغربية لم تكن مشروعا للتقدم بقدر ما كانت جهدا يرمي إلى إبادة المعارف غير الأوروبية، تمهيدا لإحلال نسق واحد يُفرض بوصفه كونيا.
وفي إطار نقده لما أسماه «الاستعمار المعرفي»، يرى المفكر الأرجنتيني، والتر منيولو، أن «الحداثة» لا تنفصل عن الاستعمار، وأنها نشأت من رحم المشروع الإمبريالي الأوروبي، وفَرضت على الشعوب الأخرى «مقاييس معيارية» للمعرفة والجمال والمنطق. ومن جهته، طرح البيروفي، أنيبال كيخانو، مفهوم «الكولنيالية كنسق معرفي»، وشرح كيف أن الاستعمار استمر -حتى بعد تحرر الدول سياسيا- من خلال استمرار هيمنة أنماط التفكير الأوروبية على الإعلام والتعليم والعلوم في المستعمرات القديمة. وبذلك، لم ينته «الإبستيموسايد» بانتهاء الاستعمار الكلاسيكي، وإنما تكرس عن طريق «العولمة المعرفية»، واحتكار المؤسسة الغربية إنتاج المعرفة.
ما يزال الإبستيموسايد يسجل حضوره المستمر في بنية النظام المعرفي العالمي، سواء في المناهج الجامعية التي تُهمش نتاجات شعوب الجنوب وتحتفي بنتاجات الغرب باعتبارها الوحيدة الجديرة بالتعليم؛ أو من خلال سيطرة المجلات العلمية الرائدة على آليات النشر والتصنيف والاعتراف. وحتى في الطب والأنثروبولوجيا والسياسة، يجري فرض المعايير الغربية بوصفها «موضوعية» بينما يتم إقصاء الرؤى المحلية والممارسات المجتمعية الأصيلة، لمجرد كونها غير متطابقة مع النموذج المعياري الأوروبي.
ثمة الآن عدد متزايد من المفكرين الذين يشخصّون الإبادة المعرفية في المجتمعات، ويدعون إلى ما يسمونه «بناء تعددية معرفية»، تعترف بتعدد أنماط المعرفة؛ وبأن هناك أكثر من طريقة لفهم العالم، وأن الحقيقة ليست محصورة في المنهج التجريبي الغربي. ولا ترفض هذه الأصوات المعرفة الغربية بالمطلق، وإنما تدعو إلى تخفيف طغيانها وخلق نوع من التوازن في فضاء إنتاج المعنى؛ تماما كما أن العالم متعدد الثقافات، كذلك ينبغي أن يكون متعدد المعارف.
على هذه الأسس، لن تكون مهمة تفكيك الإبستيموسايد معرفية فقط، بل أخلاقية وسياسية أيضا. إنها تتصل بالحق في امتلاك السردية، والحق في التعبير عن التجربة كما هي، بلسان أصحابها وليس بترجمة الآخر. ويدعو مناهضو «الإبادة المعرفية» إلى مقاومة مركزية واحدة تقول لنا ما هو العلم، وما هو المنطق، وما هو التقدم، ومن يستحق أن يكون «عالما» ومن يلقى به إلى هامش التخلف. وسيكون إحباط المجزرة المعرفية شرطا لأي عدالة معرفية حقيقية، ولكل مشروع تحرري يسعى إلى التخلص من الهيمنة في السياسة، وفي الفكر، واللغة، والمخيال.