عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Sep-2025

الوصفة*إسماعيل الشريف

 الدستور

«لا نتدخل من أجل نشر الديمقراطية، بل من أجل السيطرة على الموارد والأسواق والنفوذ.» ـ كريس هيدجز، صحفي أمريكي.
كل بضع سنوات، تتحوّل دولة تجرؤ على التمرّد على النظام الدولي إلى بؤرة اهتمامٍ لواشنطن وحلفائها؛ فتبدأ حملة الشيطنة، وتُردِّد الصحافة أوصافًا من قبيل «ديكتاتور» و»تهديد». ثم تُفرض العقوبات، وتُمطر القنابل، فينهار النظام، وتُدفع البلاد إلى أتون الفوضى، فيما يتقاسم الغزاة مواردها.
لقد أصبحت هناك وصفة مكرّرة لتغيير الأنظمة، طُبِّقت من العراق إلى ليبيا، ومن أفغانستان إلى بنما؛ حيث يُقتل الملايين وتنهار الدول، دون أن يُحاسَب الساسة في الغرب على جرائمهم. واليوم، يجري تنفيذ الوصفة ذاتها على فنزويلا.
هذه الوصفة تمضي في خمس مراحل متتالية:
المرحلة الأولى: شيطنة رئيس الدولة المستهدَفة. تنطلق حملة إعلامية منظَّمة لتحويل قائد البلد إلى تجسيدٍ للشر، فتتردّد أوصاف مثل «المجنون»، و»الطاغية»، و»السفّاح»، وتُغمر وسائل الإعلام بتقارير عن قمع المعارضة وبشاعة السجون. وقد تحمل بعض هذه الروايات شيئًا من الصدق، لكنها تُقدَّم دائمًا في إطارٍ من التهويل والمبالغة الفاضحة.
والغاية من ذلك كلّه كانت تهيئة الرأي العام لتقبّل فكرة تغيير النظام. ففي عام 2002 أعلن جورج بوش الابن أنّ صدام جزء من «محور الشر»، واتهمه بإنتاج أسلحة دمار شامل. وفي عام 2023 زعم جو بايدن أنّ حركة حماس «قطعت رؤوس الأطفال». لقد كذب بوش كما كذب بايدن، غير أنّ كلماتهم تركت أثرًا عميقًا في نفوس الناس. واليوم يُقدَّم نيكولاس مادورو، رئيس فنزويلا والمعارض للهيمنة الغربية، في الإعلام الغربي على غرار القذافي وصدام؛ يُصوَّر باعتباره فاسدًا، قمعيًّا للمعارضة، ومصدرًا لإغراق الولايات المتحدة بالمخدّرات.
المرحلة الثانية: عزل النظام. تُفرض العقوبات، ويُطرَد الدبلوماسيون، وتُسخَّر المنظمات الدولية لتكون أداةً في تنفيذ هذه السياسة ومنحها غطاءً من الشرعية. الغاية من هذه الإجراءات إنهاك النظام ودفع الشعب إلى الانقلاب عليه، غير أن الواقع يبرهن أن الضحية الحقيقية هي الشعوب لا الأنظمة. فالعقوبات تفاقم معاناة الناس، فيما تبقى الأنظمة قائمة وتزداد الدوائر المقرّبة من السلطة ثراءً ونفوذًا. لم يسقط نظام واحد بفعل العقوبات؛ لا في العراق، ولا في أفغانستان، ولا في ليبيا، ولا في فنزويلا ـ حتى الآن.
في العراق، قضى أكثر من مليوني طفل تحت وطأة العقوبات، ومع ذلك لم ينهَر النظام. وفي فنزويلا، جمّدت الولايات المتحدة وحليفتها أوروبا أصول شخصيات ومسؤولين حكوميين، وفرضت قيودًا صارمة على بيع وشراء النفط، إلى جانب عقوبات مصرفية قاسية. وقد أسهمت هذه الإجراءات في تعميق أزمة اقتصادية خانقة، أضعفت الدولة بشدّة، ومهّدت الطريق للمرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة: القصف من أجل «السلام»! وحين تفشل العقوبات ـ كما هو متوقَّع ـ تنطلق الضربات العسكرية. ولا يُسمّى ذلك حربًا أبدًا، بل يُغلَّف بمصطلحات ناعمة مثل: «ضربات جوية محدودة»، أو «عمليات جراحية دقيقة»، أو «حماية المدنيين» الذين تتساقط القنابل على رؤوسهم. إنه المشهد ذاته الذي تكرّر في كل حروب الولايات المتحدة. وفي حالة فنزويلا، أطلقت واشنطن أكبر عملية بحرية في البحر الكاريبي، واستهدفت قبل أيام زورقًا زعمت أنه يهرّب المخدّرات. وفي عام 2020، دشّنت الولايات المتحدة أضخم انتشار بحري في نصف الكرة الغربي منذ عقود، بذريعة «مكافحة المخدّرات»، واستهدفت سفينة فنزويلية بدعوى أنها محمّلة بالمخدرات. وأمس فقط، قرّرت إرسال سرب من طائرات F-35 لتنفيذ عمليات هناك، لتصبح الحرب على بُعد أمتار قليلة.
المرحلة الرابعة: حكومة جديدة. مع سقوط النظام تبدأ مرحلة ما يُسمّى «إعادة البناء»: تُنشأ حكومة بديلة، وتُجرى انتخابات تحت الوصاية، ويحلّ «المندوب السامي» الأمريكي محاطًا بآلاف المستشارين والمتعهدين والحراس، ليتولّى إدارة البلاد تحت لافتة «الشرعية الدولية». وبعد أعوام قليلة، تُعلن الولايات المتحدة أنّ «الخطة لم تنجح». إذ تكون الحكومات الجديدة ـ في معظم الأحيان ـ فاشلة، فاسدة، تفتقر إلى الشرعية، بل وغالبًا ما تبدو أسوأ من النظام السابق. وهكذا تُدفَع الدولة إلى فوضى عارمة وحروب أهلية لا تنتهي.
المرحلة الخامسة: الانسحاب. تغادر القوات الأجنبية بعد أن تكون قد نهبت موارد البلاد، ومنحت شركاتها عقود «إعادة الإعمار»، لتتحوّل الدولة إلى كيان طيّع يسهل إخضاعه. ثم تُطوى القصة ويُطوى معها الشعب الذي زُعِم أنّ الغزو جاء من أجله. أما الغزاة، فيتركون مناصبهم، ويكتبون مذكّرات تدرّ عليهم الثروات، ويقضون تقاعدهم متنقّلين بين المحاضرات يحاضرون عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد أثبتت هذه الحروب أنّها لم تكن يومًا لنشر الديمقراطية أو حماية حقوق الإنسان، بل كانت على العكس تمامًا؛ إذ جاءت التدخّلات أحيانًا لتثبيت أنظمة ديكتاتورية، وأحيانًا أخرى لاستبدال أنظمة ديمقراطية بأخرى استبدادية. فالمسألة برمّتها لا تدور إلا حول مصالح الإمبراطورية، ولا شيء سواها. وقد رأينا ذلك جليًّا في العراق وأفغانستان وليبيا، وها هي الوصفة ذاتها تُنفَّذ اليوم في فنزويلا.