الغد-عزيزة علي
يمضي كتاب "من جيل المؤسسين: فضل فالح الدلقموني 1910–1979"، للباحث سلطان الشياب، في تتبع خطوات الدلقموني منذ بداياته المتواضعة في التعليم، مرورًا بمحطاته في مؤسسات الدولة المختلفة، وصولاً إلى حضوره النيابي والوزاري الذي شكّل شهادة على إخلاصه ونقاء سيرته. ومن خلال الوثائق والشهادات والذاكرة الشعبية، يرسم المؤلف صورة رجل عاش للأردن، وترك من حوله إرثًا من المصداقية والعدل وحب الناس.
يأتي هذا الكتاب الذي صدر ضمن برنامج "فكر ومعرفة"، الذي تصدره وزارة الثقافة، ليعيد ترتيب الذاكرة، وينفض الغبار عن سيرة رجل حمل ملامح جيل التأسيس، وترك أثره العميق في مسيرة الدولة الأردنية الحديثة.
ويعد هذا الكتاب نافذة على مرحلة كاملة من تاريخ الوطن، تتجلى فيها ملامح النهوض الإداري والسياسي، وتتعانق فيها قيم النزاهة والعمل الوطني مع مسؤولية البناء في أشدّ لحظاته حساسية.
ويستحضر الكتاب سيرة فرد، لكنه في الوقت ذاته يروي حكاية وطن، ويعيد إلى الذاكرة نبض زمنٍ كان الرجال فيه يصنعون حضورهم بالفعل لا بالقول، وبالوفاء لا بالضوء العابر. ويرى المؤلف أن هذا العمل يُعد "على حدّ علمه"، الأول من نوعه الذي يقدّم سيرة الراحل فضل الدلقموني في صورة موثقة ومتكاملة.
ويشير الشياب في مقدمته إلى أنه تتبّع، عبر هذا البحث، المسيرة الذاتية والوظيفية للدلقموني منذ بداياته الأولى؛ فقد بدأ حياته المهنية معلمًا في مدرسة كفرسوم الابتدائية، ثم تنقّل بين عدد من المؤسسات الحكومية، فعمل في دائرة الإحصاءات العامة، ووزارة الإنشاء والتعمير، وديوان المحاسبة، قبل أن يتولى إدارة دائرة الجوازات العامة. كما شغل منصب وكيل وأمين عام وزارة المواصلات (البريد والبرق والهاتف آنذاك)، في مسارٍ مهني يكشف عن تدرّج ثابت ورؤية واضحة في خدمة الدولة.
وأضاف الشياب أنه تم انتخاب الدلقموني عضوًا في مجلس النواب للدورتين الثامنة (1963–1966) والتاسعة (1967)، وظل نائبًا حتى وفاته، ثم عُيّن لاحقًا عضوًا في مجلسي الأعيان الحادي عشر والثاني عشر. ويرى المؤلف أن تدرجه في هذه المواقع المتعددة وتقديمه خدمات جليلة في مختلف المناصب التي تقلدها يجعلان منه بحق "رجل دولة"، ترك بصمة واضحة في الحياة الإدارية والنيابية في الأردن.
أما فيما يتعلق بمناصبه، فقد تولّى الراحل فضل فالح الدلقموني منصب وزير المواصلات والبرق والبريد والهاتف في حكومة وصفي التل الثالثة، ثم عُيّن وزيرًا للمالية في حكومة عبد المنعم الرفاعي الأولى. وقد ترك بصمات واضحة في كلا المنصبين، وما تزال الذاكرة الشعبية الأردنية تتذكر هذا الرجل الوطني وأعماله الكبيرة في خدمة الوطن والمواطن بكل احترام وتقدير.
وقد تناولت هذه الدراسة شخصية وطنية من محافظة إربد لعدة أسباب؛ فقد كان مثالاً للمسؤول الأردني النزيه، وقدّم الكثير في جميع المواقع التي شغلها. كما ورد أنه كان حديث المجالس الأردنية إلى جانب شهيدي الوطن وصفي التل وهزاع المجالي، رحمهما الله.
ويشير المؤلف إلى ما كان يسمعه من أفراد عائلته؛ إذ كان والده الراحل أبو سلطان، والقاضي الفاضل محمد عارف الشياب (أبو خلدون)، يرويان بإعجاب العديد من القصص التي تجسد معاني الخير والكبرياء الوطني، وذلك بحكم معرفتهما القريبة بالراحل وامتلاكهما ذكريات مشتركة معه.
كان الدلقموني رجلًا محبًا لوطنه، غيورًا على مصلحة أبنائه، يقدّم إربد والأردن فوق كل اعتبار. ولذلك لم يكن مستغربًا أن يبادله الأردنيون، والأربديون خاصة، حبًّا بحب. وقد تجلّى هذا التقدير الشعبي عندما أُصرّ عليه للترشّح في الانتخابات النيابية عام 1963، فخاضها مجبرًا تقريبًا، لكنه فاز فوزًا كاسحًا. كما ظهر هذا الوفاء جليًا عند رحيله، إذ شارك جمع كبير من محبيه في تشييع جنازته، وامتد العزاء لأكثر من شهر عرفانًا بمكانته وتقديرًا لسيرته الوطنية.
ويشير المؤلف في مدخل الكتاب إلى أن الراحل فضل الدلقموني كان واحدًا من رجالات الأردن المعتبرين، وقد وصفه البعض بأنه رجل دولة بحق، إذ شغل وظائفه الأولى والعليا ضمن أطر الدولة الأردنية، ولا سيما في عهد جلالة الملك الحسين، رحمه الله.
وقد عُرف الدلقموني بالنزاهة والعدل وحب العمل الإنساني، الأمر الذي استدعى تقديم دراسة موجزة لتاريخ الدولة الأردنية الحديثة خلال الفترة ما بين 1921 و2022، وهي مرحلة شهدت أحداثًا جسيمة وصعوبات وإنجازات وتحولات كبيرة، ترافقت مع جهود البناء والنهوض في مختلف القطاعات. وفي سياق هذا المسار، يبرز دور فضل الدلقموني الذي ساهم بجهد واضح في بناء الأردن في مراحله الأولى، حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، حيث وافته المنية رحمه الله.
وفي الختام، يتقدم المؤلف بالشكر لكل من أسهم في إنجاز هذا الكتاب، وبخاصة أحمد صدقي شقيرات الذي قدّم المشورة والنصح، وكان مثالًا للمؤرخ المؤتمن، لم يبخل بأي جهد أو توجيه. كما يشكر الزميل في جمعية "عون" مصطفى الأسعد الدلقموني، ابن عائلة الراحل، والذي يعدّ من المؤرخين الأكثر دقة في توثيق مسيرة النضال الأردني الفلسطيني، فقد أفاد المؤلف بمقترحات مهمة ورفده بكمّ كبير من المعلومات. ولا بد أيضًا من شكر الأخت نرجس الدلقموني، ابنة الراحل فضل الدلقموني، التي لم تبخل بأي معلومة خلال رحلة البحث، وأسهمت بدعمها في دفع المؤلف لإخراج هذا الكتاب إلى النور.