عنف يختبئ باللعب.. مزاح الأطفال حينما يتسبب بإصابات خطيرة
الغد-رشا كناكرية
اللعب وتكوين الصداقات والتفاعل الاجتماعي الذي يعيشه الطفل في بداية نموه، تشكل مساحة يكتشف من خلالها ذاته ويختبر سلوكياته وعلاقاته بأصدقائه. ومع اختلاف البيئات الأسرية وأنماط التربية، تختلف كذلك تصرفات الأطفال وانفعالاتهم.
فالطفل بعقله الصغير لا يمتلك القدرة الكافية على التمييز بين السلوك الصحيح والخاطئ، ولا يفرق بين المزاح والعنف، ويجهل كثيرون منهم الحدود الجسدية في التعامل مع الآخرين في ظل غياب التوجيه والتوعية.
تصرفات عنيفة تلحق الأذى
ولعل معظمنا شاهد الفيديوهات التي انتشرت مؤخرا وتظهر تصرفات عنيفة للأطفال أثناء اللعب، والتي أدت إلى إلحاق الأذى بأصدقائهم من دون إدراك منهم.
ومن بينها فيديو لطفل صغير في إحدى المدارس وهو يمازح صديقه الذي سقط مغمى عليه، إذ التفت يده حول عنق صديقه "مزاحا"، وبدأ يحكم ذراعه حوله ليسقط ويفقد الوعي وسط ذهول الأطفال من حوله، وصدمة كبيرة بدت على وجه الطفل الذي شعر بالذنب.
وانتشر أيضا فيديو آخر لطفل يروي انه أصيب بـ العصب السابع بسبب صديقه الذي قرر أن يمزح معه دون سابق إنذار، فوجه له ضربة على وجهه "كف" بينما كان يجلس في مقعده يراجع درسه. مبينا أنه في البداية شعر بألم شديد أفقده القدرة على تناول الطعام والابتسام بشكل صحيح، ليراجع الطبيب ويكتشف لاحقا إصابته بالعصب السابع.
المزاح الثقيل غير المنضبط الذي لا يراعي الفرق بين اللعب والعنف، هذا الذي نراه اليوم لدى بعض الأطفال، ظاهرة تترك وراءها تساؤلات عديدة؛ هل يعود هذا السلوك إلى تقصير الأهل في التوعية والتوجيه؟ أم إلى التقليد الأعمى لما يشاهده الطفل في محيطه؟
دور الأسرة في تعليم الصغار
المتخصصة في الإرشاد النفسي والتربوي في الجامعة الهاشمية، الدكتورة سعاد غيث، تبين أن الطفل يعيش ضمن عدة دوائر؛ دائرة الأسرة، والإعلام، والبيئة الرقمية، والمدرسة، وجميعها مؤثرات تؤثر في الطفل.
وتوضح غيث أن لدى الطفل نماذج في دائرة الأسرة، ويقلد ويتعلم كيف يعبر عن غضبه أو طريقة المزاح من خلال نماذج الوالدين والإخوة.
وتبين أنه إذا كان الضرب وأساليب المزاح بالأيدي مألوفة في بيئة الأسرة، فإن الطفل بطبيعته يقبل هذه التصرفات ويعممها خارج البيت على أصدقائه في المدرسة.
وتضيف غيث أن الطفل قد يتعلم هذه الأساليب من قسوة الأهل في تربيتهم والعقاب الجسدي الذي يتعرض له، ما يخلق لديه قابلية أعلى لتبني العنف سواء في اللعب أو التواصل مع أقرانه.
العنف بقصد جذب الانتباه
وتشير غيث إلى أن الطفل الذي يعاني من نقص في الاحتواء الانفعالي والحوار العاطفي داخل الأسرة، قد يدفعه ذلك لاستخدام السلوك العنيف بغرض جذب الانتباه.
ومن جهة أخرى، تبين غيث أن الأطفال غارقون في دائرة الإعلام والبيئة الرقمية؛ فالتعرض المتكرر لمشاهد العنف، وألعاب العنف.
وتقول غيث: "هم لا يميزون بين الخيال والواقع، وبين ما هو تمثيل وما هو مؤذي فعلا في الحياة الواقعية"، ولذلك قد يكتسبون هذا السلوك ويقلدونه مع أصدقائهم.
وتؤكد غيث أن المشكلة الكبرى تكمن في غياب التوجيه من الأهل، لأن الطفل إن لم يتلق التوجيه الكافي وتعليقا على السلوكيات التي يقوم بها أو المشاهد التي يشاهدها، فلن يستطيع للأسف أن يميز ما هو مقبول وغير مقبول.
الطفل لا يدرك عواقب تصرفاته
وتشدد على أن الأم يجب أن تربي ابنها على ألا يمسك صديقه من رقبته، وألا يضربه أو يركله على معدته أو رأسه، لأن هذه الأجزاء قد تتعرض لضرر كبير.
هذه المعلومة من المهم أن تصل للأطفال، ليس بالتخويف، لكن لأن الواقع يقول إنه إذا فقد السيطرة على تصرفاته أو المزاح واللعب العنيف مع أولاد صفه وأقرانه، فهو لا يدرك ما هي العواقب التي قد تنتظره.
ومن جانب آخر، فإن خصائص الأطفال النمائية ما تزال في طور النمو، وهم لا يمتلكون ضبطا كافيا للانفعالات، فالمزاح قد يتحول بسهولة إلى فقدان السيطرة. كذلك هناك أطفال لديهم اندفاعية وفرط نشاط وحركة، ما يجعل اللعب عنيفا عند غياب القواعد.
غياب الإشراف بساحات اللعب
وتؤكد غيث أن غياب الإشراف في ساحات اللعب في المدرسة يجعل هذا اللعب والمزاح الثقيل والعنيف يتزايد، فهم غير ناضجين ويحتاجون توجيهاً.
لذلك علينا أن نحاول تبسيط مفهوم العنف والمزاح بما يناسب مستوى نموهم ويمكن أن نروي لهم القصة بالتمثيل ونقدم لهم قواعد واضحة، مثل أن المزاح المقبول والصحي والجميل من دون أن يسبب له ألما، وأن يكون المزاح بألفاظ مقبولة وغير نابية، وليس بالأيدي.
وشددت غيث على أن تعليم الأطفال الحدود الجسدية، وأن هناك مناطق في الجسم لا تلمس مثل الرأس والرقبة والمعدة، أمر ضروري، كما أن الأطراف معرضة للكسور، فالدفع و"حركات الموت" جميعها، وإن كانت على سبيل التمثيل، يفترض عدم استخدامها إطلاقا.
التوجيه والنماذج الإيجابية
وتؤكد غيث أن الأسرة لها دور كبير في التوجيه وتوفير النماذج الإيجابية، ووضع قواعد واضحة للعب داخل البيت وخارجه، وضبط نوعية الألعاب ومراقبة المحتوى الذي يشاهده الأطفال، مشيرة إلى أن للوالد الحق في الإشراف على هذه الشاشات وعلى المحتوى الذي يتعرض له الطفل.
إلى ذلك، ينبغي تعليم الأطفال التعبير عن مشاعرهم سواء الغضب أو الإزعاج بالكلمات، بعيدا عن الانتقام من زملائهم.
ووفق قولها، فإن المدارس يفترض أن تكون لديها سياسات وبيئة آمنة وتعليمات واضحة، وألا تسمح بمثل هذه التصرفات، ولها دور كبير في تعليم الأطفال كيف يلعبون اللعب الآمن الخالي من الغضب أو الإساءة للآخرين تحت عنوان "نمزح".
سلوك قد يتعاظم مع الوقت
ومن جهة أخرى، قد يفشل الطفل في تعلم مهارات اجتماعية صحية مثل تنظيم ذاته والتفاوض وحل الخلاف لفظيا، وقد تتضخم الحوادث وتحدث إصابات خطيرة أكثر من مجرد دفع وركل، قد تصل إلى كسور وإصابات في الدماغ.
والأخطر، بحسب غيث، أن يتطور لدى الطفل تصور مشوه عن ذاته بأنه قوي، وأن لفت الانتباه يكون عندما يؤذي أحدا، والأسوأ أن يمتد هذا السلوك معه إلى مراحل لاحقة من العمر ليصبح مزاحه ثقيلا مع زوجته أو عنيفاً مع أولاده وهذا الأمر له تبعات سيئة.
ومن الجانب النفسي، تبين اختصاصية علم نفس النمو والتعلم دينا حسين أن هناك عدة عوامل تلعب دورا في عنف الأطفال، موضحة أن الأطفال من ناحية نمائية تكون قدرتهم على ضبط انفعالاتهم قليلة ولم تنضج بعد، خاصة إذا لم يجدوا تربية تساعدهم على تنظيمها.
التمييز بين اللعب والأذى باللعب
وتضيف أنهم لا يستطيعون تقدير القوة في أجسادهم، وأن "الرمية" أو "الدفعة"، التي قد تبدو بسيطة للطفل يمكن أن تكون لها نتائج كارثية، وبالتالي يكون من السهل عليهم ممارسة العنف إذا لم تكن هناك تربية لتنظيم انفعالاتهم وتدخل من الأهل والبيئة.
وبناء على ذلك، لا يميزون بين اللعب والأذى، خاصة إذا كانوا يشاهدون هذا الأمر في محيط الأسرة، فهذا يؤثر عليهم ويجعلهم يعتقدون أنه أمر طبيعي.
وتؤكد حسين أن دور الأهل يكمن في مساعدة الطفل على فهم أن هذا التصرف غير مقبول، وذلك بالجلوس معه وتعليمه كيف يكون اللعب بشكل تعاوني وتشاركي لا بشكل عدواني.
وتذكر حسين أنه في بعض الأحيان يلجأ الطفل للعنف لأنه يتعرض للعنف وهو مكبوت، فيحاول تفريغ الغضب الذي لديه من خلال إيجاد حلقات أضعف منه من الأطفال.
ومن جهة اخرى تبين حسين انه في حال أذى الطفل صديقه قد يشعر بالذنب والخوف، وهذه مشاعر قوية جدا ومن الصعب أن يتعامل معها لأنه ليس لديه مصادر وأدوات ليتعامل مع هذا الشكل من المشاعر القوية التي تخلق صراعات داخلية.
كبت المشاعر ينتج ممارسات عدوانية
وقد ينتح عن هذه المشاعر مشاكل سلوكية بحسب حسين، فقد يتعرض لكبت لهذه المشاعر وتظهر أحيانا كثير على شكل ممارسات عدوانية كما تهتز صورته لنفسه وينظر له على إنه "أنا شخص خطير على المجتمع" "أنا ما حدا بيحبني" خاصة إذا كان الذين حوله ينعتونه بهذه الصفات.
وتبين إنه في هذا العمر الطفل ليس لديه تقدير لذاته ويكتسبه من خلال الآخرين خاصة الكبار والموثوقين كالأم والأب وبالتالي يأخذ صورته عن نفسه من العائلة والناس حوله.
لهذا فإن إطلاق الأحكام ووصم سلوك الطفل يجعله يأخذ انطباع عن نفسه ويكبر وهو يعتقد أنه شخص عنيف، وبالتالي يمارس العنف ويستمر في ممارسات العنف والعدوان.
ولتصحيح السلوك علينا أن نعلم الطفل التفريق بين اللعب والعنف، منوهة حسين إلى أنه في بعض المدارس يوجد اعتقاد بأن الأصل ألا يكون هناك توجيه أو إرشاد أبوي أو من شخص كبير للأطفال خلال لعبهم، لأن ذلك قد يعيق نمو المهارات التي يكتسبونها من اللعب مثل التفاوض والحوار واحترام الدور.
لكن من وجهة نظرها، فإن نزع إشراف البالغين عن لعب الأطفال تماما أمر خاطئ، إذ يجب أن يكون هناك إشراف مدروس يقدم تدخلا لا يمنع الطفل من اختبار شخصيته وذاته وكيف يأخذ حقه ويكون صبورا ويحترم دوره.
كما يجب أن تكون هناك حدود واضحة مثل منع الضرب، واللعب دون استخدام اليدين أو الرجلين، أو التحدث بألفاظ بذيئة أو السخرية، وبذلك نمهّد لوجود مساحة آمنة يستطيع الأطفال اللعب فيها.
تحمل المسؤولية عبر تصحيح الأخطاء
وتبين أننا نعمل هنا على إنماء المهارات الوجدانية عند الطفل، ليشعر بالآخرين ويتعاطف معهم ويستطيع التفكير بالطريقة التي يفكر بها الآخر، وهذا يعزز شعوره بالآخر.
إلى جانب مساعدة الطفل على تنمية مهارات الإدراك مثل كيفية الاعتذار وتحمل المسؤولية وتصحيح الأخطاء، وكيف نعيد دمجه في اللعب بدل إقصائه أو منعه أو إصدار الأحكام عليه، فهذه جميعها أمور يمكن أن تساعد الطفل العنيف على التخفيف من هذه السلوكيات أو الحدّ منها.
ومن جهة أخرى، تذكر حسين أن الطفل في مراحل الطفولة يتعلم من النماذج التي يقلدها، ومن هذه النماذج أفلام الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية، وللأسف قد يتشوه مفهوم القوة لديه، فيصبح البطل الأقوى في اللعبة هو الأكثر ايذاء وقتلا، وكلما أذى وقتل أكثر حصل على نقاط ومكافآت أكبر. وتوضح أن التعرض الدائم لهذه المشاهد يجعل الطفل أقل حساسية تجاه مشاهد العنف والدم والقتل، فيعتاد عليها ويصبح تأثيرها على مشاعره أقل.
وفي ختام حديثها، شجعت حسين الأهالي على الالتزام بتوصيات منظمة الصحة العالمية التي تحدد لكل عمر في الطفولة المدة المسموح بها لمشاهدة التلفاز.