عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Jul-2024

لماذا دفنت أمي كتبي؟*يوسف عبدالله محمود

 الغد

أمي – رحمها الله- لم تكن تقرأ أو تكتب، ولكنها كانت على حظ وافر من الذكاء ودقة الملاحظة. "تلتقطها وهي طايرة" –كما نقول في العامية! رحم الله أمي، كم اتعبتها حين كنت شاباً صغيراً في العشرينيات من العمر، كانت تقول حين كبرت ولدى اجتماع شملنا أخوة وأخوات، ما في واحد اتعبني في العائلة مثلك. واعترف أنها كانت صادقة.
 
 
ولكن ما سر هذا التعب والخوف اللذين سببتهما لأمي! دعوني استذكر بعضا من الماضي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بدأت الكتابة في جريدة "الجهاد" المقدسية تحت عنوان "نقدات" كتبت عشرات المقالات الأسبوعية، مقالاتي كانت تشي بأنني – رغم صغر سني آنذاك- "يساري" النزعة!.
أمي كانت تخاف علي كثيرا، فقد كنت معلما في إحدى قرى مدينة بيت لحم، ومرحلة الخمسينيات كانت مشحونة بالعداء لكل ما هو "يساري"!.
واعترف الآن وقد بلغت العقد السابع من العمر أن "الحزبيين" آنذاك، "قد زادوها حبتين" –كما يقال! كانوا مشدودين إلى "العاطفة" أكثر مما هم مشدودون إلى "العقل"! هذا الحزب أو ذاك هو وحده دون الأحزاب الأخرى الذي يمتلك الحقيقة!. "الأنا" هي الروح السائدة لدى الحزبيين.
أعود إلى "أمي"، فرغم أميتها، كانت تسمع من بعض الأقارب أن ابنها يتدخل في "السياسة"، وأن كتاباته ستجر عليه عواقب وخيمة، من هنا كانت –رحمها الله- تنصحني دوما! قائلة: أبعد عن "السياسة" بكرة توضع في "بيت خالتك"، أي في "السجن"!. بالطبع كنت أضحك حين اسمع منها هذا الكلام!.
أكثر من هذا، فقد كانت تحذرني من مُصاحبة من تسمع انهم "حزبيون"، بل انها حين كانت تغضب مني لهذا السبب او ذاك، يرتفع صوتها صارخة في وجهي، انت واحد شيوعي!! والحق أنني في ظرف زمني معين ملتُ إلى "الشيوعية"، إذ كنت أقرأ أدبياتها ومنشوراتها المحلية، فأجد فيها حديثاً ومفردات جاذبة اليها. لكنني فيما بعد تركت هذا "الانجذاب" رغم إيماني أن "السلام العالمي" و"العدالة الاجتماعية" طموحان بشريان، كل عُشاق "الحرية" يتمنون تحقيقها!.
في حقبة الستينيات وقبل حرب 1967 والاحتلال الإسرائيلي المشؤوم للضفة الغربية وغزة، سافرت إلى بلد عربي شقيق للدراسة في إحدى الجامعات هناك. ولدى عودتي في الإجازة فؤجئت بأن مكتبتي خالية من معظم الكتب وكما أن أعداد جريدة "الجهاد" التي نُشرت فيها مقالاتي قد اختفت! في البداية اعتقدت أن أمي لخوفها علي قد أخفت هذه الكتب والجرائد خشية أن يراها أحد فيحدث لي –حسب ما تظن- مالا تحمد عقباه! لكنني حين سألتها أين الكتب والجرائد أجابت بحزم: لقد دفنتها هناك! هل أن غير خائف على نفسك! وأضافت قائلة: أنسيت أنك "مشبوه" لدى رجال المباحث!
بالطبع حزنت كثيراً، فالكتب قد اشتريتها من المكتبات، منها القصصية والسياسية والاجتماعية، فلماذا يتم دفنها، وحين رحت ابحث عنها وجدت أن أمطار الشتاء قد أخفت معالمها! أمي عاشت في تلك الحقبة الزمنية –كما اسلفت- مرعوبة، كانت تخشى عليّ من "الاعتقال"! كانت حريصة على سلامة ابنها.
دفنُ الكتب –كما اعتقدت- يكفل لابنها البراءة من أية تهمة محتملة! وفي تصوري أن حقبة الخمسينات والستينات رغم سلبياتها. كانت ثريةً بالنسبة للشباب، كانوا بحق يقرأون أكثر من شباب هذه الأيام، كان "الكتاب" بالنسبة للكثيرين منهم "متعة ذهنية" يسعون وراء جني هذه "المتعة".
أما اليوم فالوضع –مع الأسف- قد اختلف. أدار شبابنا ظهورهم لهذه "المتعة الذهنية". هم باتوا يبحثون عن مُتع أخرى رخيصة. بالطبع لا أعمم هنا، شبابنا في غالبيتهم لا يقرأون القراءة في نظرهم باتت "ترفا" لا لزوم له!. باتوا يعشقون المتع الهابطة، لم تعد حواراتهم تعني بشؤون الفكر. هي معنية بشؤون أخرى مُبتذلة كالحديث عن مغامراتهم مع الجنس الآخر! حتى خلاقاتهم لم تعد نابعة من أعماق الفكر، بل أمست خلافات تشتم منها في كثير من الأحيان رائحة "التعصب" للقبلية أو العشيرة. كم أرثي لحال شبابنا هذه الأيام، حتى طلبة المدارس والجامعات لم يعد لِـ"الكتاب" قيمة في نظرهم! همهّم ان ينجحوا ويتخرجوا. هم لا يقرأون قراءة نقدية واعية، يستظهرون استظهاراً ليحرزوا علامة النجاح! شباب الخمسينات والستينات تعلقوا بـ"الكتاب" أكثر من شباب هذه الأيام.
حتى المكتبات اليوم بصورة عامة لم تعد تحتفي بالكتب الشاحذة لِـ"الفكر"، هي تعرض أكثر ما تعرض الكتب الرخيصة للتسلية وتملق الغرائز! كم نحن بحاجة إلى نهج أخر في التربية والتعليم ابتداء من الأسرة التي هي بحق المربي والمعلم الأول للأبناء. ولا ننسى أن أول سورة قرآنية أُنزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي سورة "إقرأ".