عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Mar-2025

قسمة القوة الناعمة: الصين تتقدم وأميركا تتراجع‏

 الغد- ‏‏ترجمة: علاء الدين أبو زينة‏‏‏

جيانلو بي* - (فورين بوليسي إن فوكس) 11/3/2025
‏تواجه الهيمنة الثقافية الأميركية، التي لم تكن تُدانى في يوم من الأيام، منافسة متزايدة من المنتجات الثقافية والمنصات الرقمية الصينية.‏
 
 
يختبر المشهد العالمي تحولاً عميقًا وتغيرًا تكتونيًا في ميزان النفوذ. ويؤكد "مؤشر القوة الناعمة العالمي" السنوي السادس، الذي أصدرته "براند فاينانس"، ما لاحظه الكثيرون مسبقًا: لقد صعدت الصين لتكون ‏‏ثاني أكثر دول القوة الناعمة نفوذًا‏‏ في العالم، متخلفة فقط عن الولايات المتحدة.‏
‏هذا الإنجاز، الذي يتزامن مع التصريحات السياسية المتناقضة التي تصدر من بكين وواشنطن، يؤكد على لحظة محورية في العلاقات الدولية. بينما ‏‏يتحدث رئيس الوزراء الصيني، لي تشيانغ، عن رؤية تركز على الانفتاح والمشاركة، يدافع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن التراجع إلى الانعزالية. ويمثل هذا الاختلاف أرضًا خصبة لازدهار قوة الصين الناعمة، وملء الفراغ المتصوَّر الذي يخلفه انحسار الوجود الأميركي.‏
وليس صعود الصين ظاهرة مفاجئة؛ إنه تتويج لاستراتيجية مقصودة ومتعددة الأوجه. على عكس هيمنة القوة الصلبة القائمة على القوة العسكرية والإكراه الاقتصادي، ‏‏تعتمد‏‏ القوة الناعمة على الجذب والإقناع، وعلى تشكيل التصورات والتأثير على التفضيلات. وقد طورت الصين ‏‏قوتها‏‏ الناعمة بدقة من خلال طرح مجموعة متنوعة من المبادرات الثقافية والتقنية والدبلوماسية.‏
‏في قلب استراتيجية القوة الناعمة للصين تكمن صناعتها الثقافية المزدهرة. ثمة الأفلام الصينية، التي كانت مشاهدتها تُقتصر ذات مرة على الجماهير المحلية، والتي أصبحت تحظى الآن ‏‏بإشادة دولية‏‏. وتُظهر الأفلام الرائجة مثل "ني دجا 2" ‏‏(Ne Zha 2)‏‏ والضجة الدولية المحيطة بلعبة (Black Myth: Wukong)‏‏ ‏‏براعة الصين‏‏ المتنامية في صناعة الرسوم المتحركة والألعاب، وهي صناعات لها صدى قوي لدى الأجيال الشابة في جميع أنحاء العالم. ويؤكد النجاح العالمي للدراما والمسلسلات التاريخية الصينية المطروحة على منصات البث على الجاذبية العالمية التي تحظى بها طريقتها المقنعة في رواية القصص.‏
بالإضافة إلى السينما والألعاب، تعمل المنصات الرقمية الصينية على إعادة تشكيل الاتصالات العالمية. وقد أصبح تطبيق "تك-توك" TikTok، بمحتواه الفيروسي سريع الانتشار وتأثيره الرائد،‏‏ ظاهرة ثقافية، خاصة بين الشباب. وتجذب منصة "شياو هونغ شو" Xiaohongshu، التي تعمل في سلع نمط الحياة والتجارة الإلكترونية، قاعدة متنامية من المستخدمين في الغرب، وتسوِّق الاتجاهات الصينية وثقافة المستهلك. وبينما تثير هذه المنصات المخاوف بشأن خصوصية البيانات والرقابة، فإنها تعمل كقنوات قوية للتبادل الثقافي وممارسة القوة الناعمة.‏
‏يشكل الترويج للغة والثقافة الصينيتين حجر الزاوية الآخر في استراتيجية القوة الصينية الناعمة. وعلى الرغم من أنها تواجَه بالتدقيق في بعض البلدان، لعبت "معاهد كونفوشيوس" ‏‏دورًا مهمًا‏‏ في نشر تعليم لغة الماندرين والوعي الثقافي الصيني. وتعمل منصات تعلم اللغة والبرامج التعليمية عبر الإنترنت على توسيع نطاق الوصول إلى اللغة والثقافة الصينيتين، وتوفير فهم أعمق للصين بين الجماهير العالمية.‏
‏كما تساهم التطورات التكنولوجية في الصين ‏‏في تعزيز قوتها الناعمة‏‏. وقد أدى التطور السريع للبلاد في مجالات، مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والاتصالات، إلى وضعها كقائد عالمي في مجال الابتكار. على سبيل المثال، ‏‏تخطو‏‏ شركات مثل "ديب-سيك" DeepSeek خطوات كبيرة في مجال تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة، وإبراز قدرات الصين المتنامية في التكنولوجيا المتطورة. ويظهر تقدم "ديب-سيك" في مجالات مثل نماذج اللغات الكبيرة والتطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي التزام الصين بدفع حدود الابتكار التكنولوجي وتوسيعها، وجذب الاهتمام والاحترام الدوليين. وكان لقيام شركة "هواوي" بتطوير البنية التحتية لتقنيات إنترنت "الجيل الخامس" 5G وقيادة الصين لإنتاج الألواح الشمسية صدى لدى الدول التي تبحث عن حلول تقنية بديلة. كما ‏‏كان لاستثمارات الصين في التكنولوجيا الخضراء‏‏ والتزامها بمعالجة أسباب تغير المناخ صدى إيجابي لدى الدول التي تبحث عن حلول مستدامة.‏
بالإضافة إلى ذلك، عززت دبلوماسية الصين الاستباقية ومشاركتها ‏‏في المؤسسات‏‏ متعددة الأطراف مكانتها الدولية. وفي حين ‏‏تعرضت "مبادرة الحزام والطريق"‏‏ إلى انتقادات بسبب ما تسمى بـ"مصائد الديون"، فإنها أتاحت تطوير البنية التحتية وقدمت الفرص الاقتصادية للعديد من البلدان، لا سيما في العالم النامي. وقد ‏‏عززت‏‏ مساهمات الصين في بعثات حفظ السلام وجهود المعونة الإنسانية صورتها كلاعب عالمي مسؤول.‏
‏يتسم توقيت صعود الصين إلى القوة الناعمة بأهمية خاصة. ففي حين تبدو الولايات المتحدة في حالة تراجع عن لعب دورها التقليدي كقائدة عالمية، تتقدم الصين إلى الأمام لملء الفراغ المتصوَّر. وقد أدى خطاب ترامب حول "أميركا أولاً"، وانسحابه من الاتفاقيات الدولية، وفرضه للتعريفات التجارية، إلى نفور الحلفاء وخلق حالة من عدم اليقين في النظام الدولي.‏
هذا التراجع الملحوظ في القوة الناعمة الأميركية يخلق فرصًا للصين لتوسيع نفوذها. وتواجه الهيمنة الثقافية الأميركية، التي كانت لا تُنازع في يوم من الأيام، منافسة متزايدة من المنتجات الثقافية والمنصات الرقمية الصينية. ويتناقض تركيز الولايات المتحدة على الأحادية ونزعة الشك التي تتبناها تجاه المؤسسات متعددة الأطراف بشكل حاد مع خطاب الصين القائم على التعاون والازدهار المشترك.‏
‏بالإضافة إلى ذلك، عملت الانقسامات السياسية الداخلية والاضطرابات الاجتماعية في الولايات المتحدة، بما في ذلك أحداث مثل أعمال الشغب في الكابيتول هيل في 6 كانون الثاني (يناير) والاستقطاب السياسي المتزايد، على تشويه صورتها كمنارة للديمقراطية والاستقرار. وعلى النقيض من ذلك، ‏‏تُقدم الصين نفسها‏‏ كشريك مستقر وموثوق به، وكأمة ملتزمة بالتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي. ويبرز أحد الجوانب الرئيسية للتراجع الأميركي في ‏‏قيام‏‏ إدارة ترامب بخفض تمويل "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" وبرامج المساعدات الخارجية، التي كانت تاريخيًا أدوات مهمة للقوة الناعمة للولايات المتحدة. ويقلل هذا التراجع عن تقديم المساعدات الدولية من قدرة الولايات المتحدة على عرض نفسها بصورة إيجابية وبناء علاقات من خلال الجهود الإنمائية والإنسانية. ويعمل هذا التناقض بين السياسة المحلية والصورة الدولية على تقويض الثقة في الولايات المتحدة كشريك موثوق به.‏
مع ذلك، لا يخلو صعود القوة الناعمة الصينية من التحديات. وتشكل الانتقادات التي توجهها بعض الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام الغربية بشأن حقوق الإنسان والرقابة وحماية الملكية الفكرية تحديًا مستمرًا لصورتها العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، في حين حققت الصادرات الثقافية والمنصات الرقمية الصينية زخمًا وحضورًا كبيرين بين أفراد التركيبة السكانية الأصغر سنًا، ما تزال هناك أسئلة حول قدرتها على تحقيق نفوذ أعمق وأكثر ديمومة عبر الفئات السكانية المتنوعة الأخرى.‏
‏ولكن، على الرغم من هذه التحديات، لا يمكن إنكار أن القوة الناعمة الصينية آخذة في النمو. وقد جعلتها قدرتها على الاستفادة من أصولها الثقافية والتكنولوجية والدبلوماسية لاعبًا رئيسيًا في الساحة العالمية. وبينما يبدو أن الولايات المتحدة تنسحب وتتراجع عن لعب دورها التقليدي كقائدة عالمية، تستعد الصين لملء الفراغ المتصوَّر، وتشكيل المشهد الدولي على صورتها الخاصة.‏
 
‏*جيانلو بي Jianlu Bi: صحفي حائز على جوائز ومعلق للشؤون الجارية مقيم في بكين. تشمل اهتماماته البحثية السياسة الدولية والاتصالات، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في دراسات الاتصال ودرجة الماجستير في الدراسات الدولية. وله العديد من المنشورات المهمة في مختلف أنحاء العالم.‏ ‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Soft Power Divide: China Advances While U.S. Retreats