الغد
أثارت عودة العمل بخدمة العلم مؤخرا موجة من الشجون والذكريات التي لا تُنسى، ذكريات تعود بي أربعين عاما إلى الوراء، حين ارتديت البزة العسكرية للمرة الأولى ووجدت نفسي أخوض تجربة ستغيّر مجرى حياتي.
كم سعدت من قرار عودة خدمة العلم العسكرية، أنا من المؤمنين أنها ضرورة ليس فقط لأهدافها النبيلة الكبرى للدفاع عن الأردن، بل للتمكن من عيش الحياة بتفاصيلها بالقوة والاحترافية المطلوبة.
لم تكن خدمة العلم مجرد واجب وطني يهدف إلى حماية تراب الوطن وأهله، بل كانت مدرسة عميقة الأثر تركت بصمات شخصية واجتماعية ومهنية ما تزال ترافقني حتى اليوم. فقد تعلمت فيها أن الانضباط ليس قيدا على الحرية، بل هو مفتاح النجاح، وأن الصعوبات ليست عائقا أمام الإنسان، بل جسرا نعبر به نحو نضج أكبر وحياة أوسع.
أذكر جيدا بداياتي هناك، بين خمسة وثلاثين شابا نبيت في قاعة واحدة، نتشارك الخبز والماء والقصص، نضحك ونشكو ونتعب معا، ثم نخلد إلى النوم باكرا لنُوقظ فجرا وننطلق إلى ميادين التدريب. كانت الأوامر صارمة لا نقاش فيها، والمدربون من الضباط وضباط صف لا يعرفون التهاون في الميدان، لكنهم بعد انتهاء التدريبات كانوا يبدون لنا وجها آخر، وجها يحمل الاحترام والمودة، فنقضي معهم ساعات من الحديث وتبادل التجارب.
كان ذلك التناقض العجيب بين الحزم والإنسانية يربينا على مبدأ جوهري يتمثل في أن الصلابة والرحمة يمكن أن يجتمعا في شخصية واحدة، وأن الإنسان الناجح هو من يجمع بين الانضباط والإنسانية.
في تلك الفترة، تعلّمت أن الخطأ، مهما بدا بسيطا، لا يمر دون حساب، ويجب أن لا يمر. العقوبات التي كنا نتلقاها كانت قاسية أحيانا، لكنها غرست في داخلي خوفا دائما من التهاون، ودفعتني إلى الحرص على تفادي الأخطاء طيلة حياتي. لقد كان التدريب مدرسة قاسية، لكنه صنع مني إنسانا أكثر وعيا، وأكثر واقعية في التعامل مع تفاصيل الحياة والطموحات الكبرى، يدرك قيمة النظام والالتزام، ويعرف أن الجدية ليست خيارا بل ضرورة للنجاح.
ما زلت أسمع في داخلي صدى العبارة التي تكررت على مسامعنا آنذاك “ كل نقطة عرق تنزل في ميدان التدريب توفر الدماء في ميدان المعركة.” ومع مرور الزمن، أدركت أن هذا القول لم يكن حقيقيا في ساحة القتال فحسب، بل في ساحات الحياة كافة، بكل تفاصيلها ومعاركها المتنوعة.
لقد وفر لنا العرق الذي سكبناه في ميادين التدريب خبرات لا تقدر بثمن، خبرات علمتنا الصبر، والتحمل، والقدرة على مواجهة أصعب التحديات. بعد إنهائي لخدمة العلم، لم يمر شهر واحد حتى حصلت على وظيفة في أحد المؤسسات، وكانت خبرتي في الخدمات الطبية الملكية هي المفتاح الذي فتح أمامي هذا الباب بسرعة، في وقت كان فيه العثور على فرصة عمل أمرا عسيرا.
ذاكرتي ما زالت تعج بعشرات القصص والحكايات، بعضها كان قاسيا، وبعضها ممتعا، لكن جميعها ترك في نفسي أثرا عميقا. ومن بين أثمن ما خرجت به من تلك التجربة علاقات إنسانية وصداقات لا تُنسى. فقد عشنا معا تحت سقف واحد، نأكل وننام ونتدرب ونتألم معا. لم يكن أحد يسأل الآخر من أي مدينة جاء أو لأي عائلة (عشيرة) ينتمي، كنا جميعا متساوين أمام التعليمات والظروف والتعب.
تلك الروابط لم تكن مجرد صداقات عابرة، بل علاقات امتدت لسنوات طويلة قبل أن تفرقنا مشاغل الحياة، وما زالت ذكراها تعيش في قلبي كأجمل ما ورثته من تلك الأيام.
واليوم، وبعد مرور أربعة عقود، أقولها بكل صدق: من لم يخض تجربة خدمة العلم قد خسر الكثير. فهذه التجربة لا تمنحك مهارات عسكرية فحسب، بل تفتح أمامك أبوابا للحياة لا تجدها في أي مكان آخر. كلما كانت الظروف أصعب، كان الأثر أعمق وأبقى.
لم تكن أشهرا وسنوات ضائعة من العمر، بل كانت أشهرا وسنوات تعادل عقود من الخبرة والتجربة. لقد منحتني تلك التجربة منظومة من القيم الإنسانية والوطنية التي لم تفارقني حتى في أصعب الظروف، وعلمتني أن خدمة الوطن تبدأ بخدمة الذات وصقلها بالانضباط والعزيمة.
رسالتي اليوم إلى شبابنا وأولياء الأمور، لا تفوتوا فرصة خدمة العلم، فهي ليست مجرد التزام يمر سريعا، بل تجربة استثنائية تبني الإنسان قبل أن تدربه. هي مدرسة كبرى تُعلِّم الانضباط، وتزرع القيم الوطنية، وتفتح الأبواب لآفاق واسعة من المعرفة والمهارة. أيها الشباب: ستدخلونها بخصائص وتخرجون منها بخصائص مختلفة، أكثر نضجا وقوة وثقة بأنفسكم، وستكتشفون في دواخلكم طاقات لم تعرفوها من قبل.
وأيها الآباء والأمهات، شجعوا أبناءكم يعيشون هذه الرحلة، فهي ستمنحهم دروسا وخبرات لن يجدوا لها مثيلا في قاعات الجامعات أو المعاهد. خدمة العلم فرصة ذهبية، نعمة تختصر سنوات من المعاناة والتجارب، وتمنح الإنسان صلابة وقيما وأصدقاء وخبرات تبقى معه حتى آخر العمر. ومن عاشها يعرف جيدا أنها لم تكن مجرد واجب وطني، بل كانت بوابة حياة كاملة، حياة مختلفة أجمل وأغنى.