الدستور
الغرب لا يكره الفلسطيني لأنه يرفع السلاح، بل لأنه يرفض أن يستسلم
– محمد حسنين هيكل.
في تصريحات علنية، وصف ترامب الناشط المسلم المناهض للصهيونية زهران ممداني، عمدة نيويورك، بأنه «فلسطيني أكثر من اللازم». كما اتهم السيناتور اليهودي الأمريكي تشاك شومر بأنه «أصبح فلسطينيًا ولم يعد يهوديًا. ولم تخلُ مناظرته مع بايدن العام الماضي من ذات النبرة حين نعته بـ»الفلسطيني السيئ». هكذا، تُستخدم كلمة «فلسطيني» في الخطاب الغربي كشتيمة ووسيلة للاحتقار والسخرية، لتُختزل صورة الفلسطيني في الذهن الغربي على أنه متمرّد مشوّه، إرهابي، ورافض للسلام.
وللأسف، لم تعد هذه الصورة مقتصرة على الغرب، بل بدأنا نرى بعض الحسابات العربية المشبوهة، أو ما يُعرف بالذباب الإلكتروني، يسخرون من الفلسطينيين ويتهمونهم بأنهم باعوا أرضهم، أو أنهم ليسوا عربًا، بل مجرد خليط من شتى الأعراق التي سكنت الأرض. إنهم بذلك يكشفون جهلًا فادحًا، ويتنكرون للتاريخ؛ فالغساسنة عرب أقحاح، والقبائل العربية هاجرت من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، والفلسطينيون فيهم أحفاد الفاتحين العرب. ثم إنّ الاختلاط والتنوّع ليسا نقيصة، بل أساس للإبداع والثراء الإنساني، كما قال رسول الله ?: غرِّبوا النكاح.
نحن اليوم أمام لحظة صدق تتكشّف بعد أكثر من خمسة وسبعين عامًا، ظلّ خلالها الفلسطينيون يربكون ضمير العالم الغربي، لا لشيء إلا لأنهم لم يُبادوا، ولم يختفوا كما تمنّى خصومهم. لقد خيّبوا توقّعات من أراد طمسهم، فقط لأنهم بقوا أحياء، متمسكين بوجودهم، معتزين بحقهم.
ولأن في هذا الصمود ما لا يُطاق في نظر الظالمين، كتبت هنا تسعةً وخمسين سببًا لكراهية الفلسطينيين. قد يجد القارئ في بعضها شيئًا من التهكم أو السخرية، لكنه تعبير صادق عن الإحباط والعجز، وفضح صارخ لتناقضات هذا العالم:
لأنهم مزّقوا كل الأوراق التي طلبت منهم الاستسلام.
لأن كلمة «احتلال» ما زالت حيّة في قواميسهم.
لأنهم ما زالوا يعلّقون مفاتيح منازلهم المهدّمة في أعناقهم.
لأنهم لم يختفوا من كتب التاريخ.
لأنهم حوّلوا الزيتون والبطيخ إلى رموز وطنية.
حتى الجهلة منهم ينتصرون في أي حوار سياسي.
لأنهم يتكاثرون رغم المجازر والتهجير، وفنّدوا خرافة «أرض بلا شعب».
لأن رواياتهم وأشعارهم الوطنية جميلة ومؤثرة.
لأنهم ما زالوا يردّدون «حق العودة».
لأن الجيل الثالث من المهجّرين ما زال يتحدث بلكنتهم الفلسطينية، وتزيّن صورة الأقصى جدران منازله.
لا الزمن ولا جواز السفر الأجنبي يستطيعان نزع فلسطينيتهم.
لأنهم يعلّمون أطفالهم رمي الدبابة بالحجر، ويمرّون بتحدٍ أمام الجنود المدجّجين.
تحت الحصار يخرج منهم المبدعون في كل المجالات.
لأن الحمص والفلافل والكعك ألذّ عندهم.
لأن الملابس التقليدية التي سرقها الاحتلال تبدو أجمل على أجسادهم.
لأنهم يُذبحون وتخرج من دمائهم أجيالٌ أكثر عنادًا.
لأنهم يبثّون مذابحهم ولا يصمتون.
لأن حسّهم الفكاهي باقٍ رغم الحصار والتجويع.
لأنهم يحرجون المنظمات الدولية وكل من يتغنّى بحقوق الإنسان.
لأنهم يتزوّجون وينجبون وسط الإبادة الجماعية.
لأنهم يتمسّكون بأرضهم رغم المجازر.
لأن ذاكرتهم لم تنسَ الحروب ولا تفاصيل القتال.
لأنهم يحرجون العالم.
لأن أطفالهم يلعبون وسط الأنقاض.
لأن الموت والحياة عندهم سواء.
لأنهم يسمّون أبناءهم بأسماء الشهداء.
لأنهم يحرصون على الحياة بقدر ما يحرصون على الشهادة.
لأنهم ينشرون أبحاثًا أكاديمية في ظل انقطاع الكهرباء.
لأنهم لم يحوّلوا الصدمة إلى صمت، بل إلى دعاء.
لأنهم يزرعون الزيتون وهم يعلمون أنه سيُقتلع، ويبنون بيوتًا وهم يدركون أنها ستهدم.
لأنهم يلعنون الاحتلال وكل من يواليه.
لأنهم يريدون فقط أن يأكلوا ويشربوا كأي بشر.
لأنهم قدّموا للعالم إدوارد سعيد، ورشيد الخالدي، ومنير نايفة، وعبد الحميد شومان، وآلافًا غيرهم.
لأنهم رفضوا وقف إطلاق النار دون كرامة.
لأنهم يظهرون ضعف العدو.
لأنهم حوّلوا التطريز إلى شكل من أشكال المقاومة.
لأنهم يقيمون حفلات الزفاف وأعياد الميلاد فوق الركام.
لأن لديهم مدارس بلا جدران، ومساجد بلا سقوف.
لأن العالم اكتشف أنهم بشر، بل أكثر إنسانية من كثيرين.
لأن تعاطف شعوب العالم معهم يربك الحسابات.
لأنهم لا يموتون بصمت.
لأنهم يعلّمون أبناءهم كلمات مثل: تحرير، مقاومة، شهادة.
لأنهم يرفضون الشفقة.
لأنهم يجبروننا على أن نبقى متفرجين.
لأنهم يرفعون سبابتهم بالشهادة وهم يحتضرون.
لأنهم يحتفلون بالأعياد وسط الأنقاض.
لأنهم يدخلون المحاكم بالكوفية.
لأنهم يرسمون الجداريات فتتحدث عنهم.
لأنهم يورّثون المقاومة كما تورّث الأموال.
لأنهم يتحدثون بالعربية في عواصم الغرب.
لأنهم لا يتوقفون عن التنديد بالجرائم المرتكبة بحقهم.
لأنهم قطعوا الكهرباء والاتصال بطائرة ورقية.
لأن غناءهم عالٍ، رغم الألم.
لأنهم يحفظون القرآن ويردّدون آياته.
لأنهم يثبتون أن الفصل العنصري ما زال حيًّا.
لأنهم يصنعون أفلامًا وثائقية تفضح العالم.
لأنهم يسمّون بناتهم بأسماء القرى الممحوة.
لأنهم مؤمنون بتحرير قادم لا محالة.
لأن قاموسهم لا يعرف اليأس.
لم يفعل الفلسطينيون شيئًا... سوى أنهم صمدوا.
وذلك وحده كان كافيًا ليجعل ذنبهم عظيمًا في عيون هذا العالم.