الغد
عواصم - منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، لم يتوقف الصراع بين الاحتلال وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بل انتقل إلى مرحلة مختلفة تُدار فيها المواجهة عبر أدوات متعددة، عسكرية وأمنية وإنسانية وسياسية.
ولا تتسم هذه المرحلة بصخب الحرب المفتوحة، لكنها تحمل ملامح صراع منخفض الوتيرة، يقوم على تثبيت قواعد اشتباك جديدة، وإعادة توزيع السيطرة، واستخدام الضغط غير القتالي كوسيلة تأثير رئيسية.
وتُظهر المعطيات الميدانية والسياسات المعلنة للطرفين أن ما بعد وقف إطلاق النار لا يمكن توصيفه كمرحلة استقرار، بقدر ما هو إعادة تموضع مؤقتة تُدار فيها المواجهة عبر "ردع متعدد المستويات"، تتحكم فيه اعتبارات السيطرة الجغرافية، والاختراق الاستخباري، وتدفق المساعدات، وإعادة الإعمار، وإدارة البيئة الداخلية في قطاع يعاني من دمار واسع ونزوح غير مسبوق.
اعتماد الاحتلال نموذج "الرد الفوري"
اعتمد الاحتلال الاسرائيلي عقب وقف إطلاق النار سياسة أمنية تقوم على الاستجابة السريعة والمحدودة لأي تحرك تعتبره تهديدا لقواتها أو لمناطق انتشارها داخل قطاع غزة.
وشملت هذه السياسة تنفيذ عمليات استهداف متكررة ضد أهداف ومجموعات فلسطينية، زعم الاحتلال أنها كانت تحاول تنفيذ كمائن أو عمليات إطلاق نيران أو الاقتراب من مناطق عسكرية محظورة، في حين أكدت المقاومة أن جيش الاحتلال كان يتذرع بهذه الحجج لمواصلة عدوانه على المواطنين في القطاع.
وأسفرت هذه العمليات، وفق إحصاءات طبية فلسطينية، عن استشهاد مدنيين في عدة مناطق تشهد وجودا عسكريا متواصلا للاحتلال، ويعكس هذا النهج استمرار خروقاته رغم وقف النار، ضمن حدود لا تُفضي إلى تفجير مواجهة شاملة من جديد.
سياسة منع حماس من استعادة قدراتها
تُعدّ مسألة منع إعادة بناء القدرات العسكرية لحركة حماس أحد أبرز محاور سياسة الإحتلال بعد الحرب، وتشير بيانات جيش الاحتلال إلى استمرار عمليات الاغتيال والاستهداف ضد عناصر تقول إنهم ينتمون إلى أجنحة عسكرية أو يشاركون في أنشطة ميدانية.
السيطرة الجغرافية على مناطق واسعة في القطاع
تُظهر الخرائط الميدانية والتحركات العسكرية أن الاحتلال فرض وجودا عسكريا دائما أو شبه دائم على مساحة تُقدر بأكثر من نصف القطاع، تشمل مناطق شريطية واسعة تمتد من شمال غزة إلى جنوبها.
وتشير تقارير منظمات حقوقية إلى أن هذه السيطرة حالت دون عودة آلاف النازحين إلى مناطقهم الأصلية، وأدت إلى تعطيل النشاط الزراعي والصناعي في مساحات واسعة.
الاعتماد على العملاء والمجموعات المسلحة
تشير مصادر فلسطينية وشهادات ميدانية إلى وجود نشاط لشبكات تعمل بالتنسيق مع استخبارات الإحتلال داخل القطاع، بعضها مرتبط بعملاء تم تجنيدهم سابقا، وبعضها ينشط ضمن مجموعات مسلحة غير خاضعة لسيطرة الفصائل.
وتتمثل الأدوار الموثقة لهذه الشبكات في تمرير معلومات أمنية، ومراقبة تحركات على الأرض، وخلق بيئات مضطربة لا تسمح للفصائل بتنظيم صفوفها، ودعم عمليات الاغتيال عبر تحديد المواقع.
القيود الإنسانية كأداة ضغط
تواصل إسرائيل فرض قيود على إدخال بعض أنواع المساعدات إلى قطاع غزة، وخاصة الخيام ومواد البناء والمستلزمات الطبية الخاصة، وفق آليات تنسيق تخضع للفحص الأمني. وقد أدى هذا التقييد إلى تعثر وصول الخدمات الأساسية لعشرات آلاف النازحين.
ولا تُقدم دولة الاحتلال هذه السياسة باعتبارها أداة عقاب، بل تبررها باعتبارات "المخاطر الأمنية".
الإعمار المشروط
تشير بيانات اقتصادية وميدانية إلى أن إسرائيل تسمح يوميا بدخول نحو 200 شاحنة فقط إلى قطاع غزة، في حين أن الحاجة الفعلية، وفق الخطط الإنسانية واللوجستية، تتطلب دخول نحو 600 شاحنة يوميا.
وقد أظهر الواقع الميداني أن هذا التقييد أدى إلى تأخر عملية إعادة الإعمار بشكل كبير، إذ لا تزال آلاف المباني المدمرة دون ترميم، مع استمرار الأعطال في شبكات المياه والكهرباء، مما أثر على حياة عشرات آلاف النازحين الذين يعيشون في ظروف صعبة.
كما أدى نقص المواد الأساسية إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي المحلي، وتأخير استعادة بعض القطاعات الإنتاجية والزراعية المتضررة.
الخطاب الديمغرافي وتشجيع الهجرة
برز في الساحة السياسية والإعلامية في كيان الاحتلال خطاب يدعو إلى "تسهيل خروج سكان من غزة" أو "فتح الباب أمام خيار الهجرة الطوعية"، ويستند هذا الخطاب إلى تصوير الوضع الإنساني في القطاع على أنه بيئة غير قابلة للاستمرار، تتسم بالدمار الواسع، ونقص الخدمات الأساسية، والأوضاع المعيشية الصعبة وتلك الأوضاع الاحتلال اختلقها لتشجيع الهجرة.
التحرك عبر الوسطاء
اعتمدت الحركة على قنوات سياسية مع مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة عبر الوسطاء، بهدف تحسين شروط وقف إطلاق النار، وتسهيل إدخال المساعدات، ومعالجة ملفات الأسرى، وتخفيف القيود المفروضة على المدنيين.
وكثفت الحركة اتصالاتها مع الأطراف للضغط على إسرائيل، في محاولة لتخفيف أثر الضغوط الأمنية والاقتصادية على سكان القطاع.
ضبط الأمن الداخلي وملاحقة العملاء
نفذت الحركة سلسلة من العمليات الأمنية ضد الأشخاص الذين تتهمهم بالتعاون مع الاحتلال، وأعلنت عن إحباط محاولات اختراق أمني. كما أعادت تفعيل وحدات أمنية محلية في بعض المناطق بهدف مواجهة الفوضى التي خلّفتها الحرب.
إدارة الأزمة الاقتصادية والمعيشية
اتخذت الحركة إجراءات تهدف إلى الحد من انفلات الأسعار وضبط الأسواق، عبر مراقبة حركة التجارة وتسهيل وصول البضائع. ووفق بيانات تجارية محلية، انخفضت أسعار بعض السلع الأساسية خلال الأسابيع الماضية، خاصة تلك التي دخلت عبر المعابر في دفعات كبيرة.
إبراز تداعيات الحرب إعلاميا
استثمرت حركة حماس بشكل مكثف وسائل الإعلام المحلية والدولية لإبراز الواقع الإنساني بعد الحرب، مركزة على توثيق الدمار الواسع الذي لحق بالمباني والمرافق الحيوية، وعرض شهادات النازحين والمتضررين من مناطق متعددة في قطاع غزة.
إعادة التعافي التنظيمي والعسكري
تشير مصادر فلسطينية إلى جهود تبذلها الحركة لإعادة ترتيب البنية التنظيمية بعد استشهاد أو اعتقال عدد من كوادرها، واستهداف العديد من مقارها وأنفاقها.
وتشير التقديرات إلى نجاح الحركة في إعادة تفعيل بعض قدراتها اللوجستية، كما تؤكد تقارير صحفية احتفاظ المقاومة بقدرات عسكرية على مستوى الأفراد والمعدات.
كما أفادت إحاطات استخباراتية أن التقديرات الرسمية تُشير إلى "وجود أكثر من 20 ألف مقاتل في صفوف الحركة، وأنها سرعان ما عوضت القادة الذين قُتلوا في الحرب، وأن أكثر من نصف شبكة الأنفاق تحت الأرض لا تزال سليمة".
ويظهر من هذه المعطيات أن عملية إعادة التعافي التنظيمي لحماس مرحلة تدريجية، تعتمد على المتغيرات في المشهد الفلسطيني والإسرائيلي والدولي.
وتعمل حماس على تحريك الجغرافيا الفلسطينية الأخرى، خصوصا الضفة الغربية، بهدف تخفيف الضغط عن غزة واستعادة الزخم التنظيمي والسياسي.
ولا تُظهر المعطيات الحالية مؤشرات على نهاية الصراع، بل تعكس انتقاله إلى شكل مختلف يعتمد على ضبط التوتر، وتقليل الخسائر، وإدارة النفوذ، بدل المواجهة الشاملة.-(وكالات)