إِيكا وهبة .. حضورٌ ثقافي وضميرٌ إنساني لا يرحل
عمون
أ.د وفاء عوني الخضراء
في لحظة يغمرها الحزن، ترحل عنا اليوم، إِيكا وهبة، الرومانية التي اختارت الأردن وطنًا، لتغدو جزءًا من نسيجه الثقافي والإنساني. لم تكن إِيكا مجرد مديرة تحرير صحيفة الجوردان تايمز وكاتبة مخضرمة في بلدٍ أحبّته واحتضنته فحسب، بل كانت كاتبةً، شاهدةً على عصر البلد ، وفاعلةً في صياغة صورة الأردن كأرضٍ تنبض بالحياة وتفيض بالمشهد الثقافي وتتسع لقصص الجمال.
بدأت القصة في Jordan Times، حيث لعبت إيكا دورا محورياً في هذه الصحيفة، وكانت لسنوات طويلة من أبرز الوجوه في هيئة التحرير، ثم كاتبةً وناقدة ثقافية من الطراز الأول، ومن أوائل من كتبوا عن المشهد الثقافي الأردني، وعن النسيج الفني والجمالي المتنوع الذي يميز البلاد. رصدت تفاصيله بعينٍ ناقدة وقلمٍ محب، وساهمت في الارتقاء بالوعي الجمالي وتذوقه عبر لغة صادقة وجزلة ومتينة، وإبراز الأردن كأرضٍ للفن والإبداع والتنوع، وبرغم عملها الدؤوب خلف الكواليس، وفي المقاعد الخلفية بعيدًا عن الأضواء وضجيج البروز والحضور، إلا أن إيكا شكّلت أحد الأعمدة الخفية لصحيفة Jordan Times وللمشهد الإعلامي الأردني ككل. وهكذا، لم تجد في الأردن مجرد مكانٍ مادي للإقامة، بل موطنًا حقيقيًا مغروساً في أرواحها وأعماق قلبها.
عبر مقالاتها في الصحف الأردنية، وكتاباتها التي امتدت لسنوات طويلة، لم تكتب إِيكا عن الأردن كما يكتبه الغريب الذي يصف من بعيد، بل كما يعيشه من الداخل، بتفاصيله الصغيرة، وبروحه الشعبية العميقة، و بجماليات فنه وحضارته وتراثه الثقافي وموروثه. ساهمت في أن تعكس صورة الأردن للعالم: أرضًا للانفتاح، والإبداع الفني، والإصرار على هويةٍ راسخة لا تنفصل عن انتمائها العربي ولا بعدها الإنساني النبيل ، بل تتجدّد مع كل جيل وتُترجم في الفنون، في الأدب، وفي الحياة اليومية.
غير أن صوت إِيكا لم يتوقف عند حدود الثقافة والفن، بل امتد ليكون حاضراً في النقاش العام حول القيم الإنسانية الكبرى: الكرامة، الحرية، والعدالة. حملت فلسطين في وجدانها كما لو أنها قضيتها أو هذا ما كان فعلاً، فمثل إيكا التي تحمل هذه القيم الرفيعة لا تدير ظهرها عن قضية عادلة، تحدثت عنها كقضية إنسانية كونية قبل أن تكون مسألة جغرافيا وسياسة. دافعت عن حق الفلسطينيين في العيش بحرية على أرضهم، واعتبرت أن الاحتلال ليس مجرد صراعٍ سياسي، بل جرحٌ أخلاقي في ضمير العالم. هكذا كانت كلماتها تتجاوز المواقف الشعاراتية لتلامس الجذر الإنساني: أن يعيش الإنسان بكرامة في وطنه، دون خوفٍ أو قهر أو اقتلاع.
رحيلها اليوم يتزامن مع صعود موجاتٍ متزايدة في الأردن ومواقفه البنيوية والعالم العربي والعالم أجمع، تُعيد التأكيد على قيمة الكرامة بوصفها المدخل الوحيد للسلام العادل. الأصوات التي تعلو ضد الإبادة، ضد تهجير الشعوب، وضد تبرير العنف باسم القومية الزائفة أو "الحق التاريخي"، هي أصواتٌ تعيد صوغ جوهر الإنسانية في هذا العصر في زمنٍ تتصارع فيه الروايات التاريخية المتعصبة والدموية، وكأن الأصوات هذه وفي يوم الرحيل هذا تمسح عن قلب إيكا سنوات من الألم والبكاء على المظلومين.
لقد كانت إِيكا تدرك أن الحكاية هي القوة الأعمق في تشكيل الوعي. لذلك، اختارت أن تكتب عن الكرامة كما يكتب الشاعر قصيدته: صادقة، حادة، ومشبعة بالحبّ. كانت ترى أن الرواية البديلة في العالم يجب أن تُبنى على سردية الحياة لا على سردية الحروب والإبادة؛ على حق الإنسان في أن يزرع ويحلم ويغني، لا على جدران الفصل والادعاءات الزائفة بالملكية الأبدية للأرض.
إن ربط حياتها وإرثها بما يجري اليوم في العالم يمنحنا مدخلًا لفهم جوهر هذا العصر. إننا نعيش لحظة مقاومة كبرى للروايات المزوّرة وزيف معانيها التي تسعى لتبرير الاستعمار الجديد، واحتكار الأرض، وإقصاء الشعوب. لحظةٌ يُعاد فيها الاعتبار للصوت الإنساني الجماعي، والقيم الكونية التي تتجاوز الحدود: الحق في الحرية، الحق في الكرامة، والحق في الوطن.
رحلت إِيكا وهبة، شامخة حرة وإنسانة، وبرحيلها نفقد وجهًا محبًا ومؤمنًا بالإنسان، لكننا نكسب إرثًا من الكلمات والمواقف التي ستبقى شاهدةً على أن الحرية ليست شعارًا، بل ممارسة يومية، وأن الأردن كما عرفته إيكا وأحبته مذهل في تفاصيله، وأن الدفاع عن فلسطين ليس موقفًا سياسيًا عابرًا، بل انحيازٌ أخلاقي لجوهر العدالة.
هكذا، تصبح إِيكا وهبة جزءًا من روح هذا العصر، عصرٌ يرفض الدم كوسيلة للشرعية، ويرفض الكراهية كأفق للتاريخ. عصرٌ يبحث عن إنسانية مشتركة، تبدأ من الكرامة وتنتهي بالحرية.
لروحها السلام، وعليها السلام
فقد تركت في كل من عرفها أجمل الأثر
وأحسن الكلام