عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-May-2020

حدث في الذاكرة.. خليل الرز والسيّاب وحصانٌ مسجون الروائي السوري خليل الرز

 

هامبورغ - عارف حمزة-في هذه الزاوية تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتّاب لكي يتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا وأيضا مسرحيين ومترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.
 
في الوقت ذاته، تعتبر هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع، لكي يتعرّف على جزء حميميّ وربما سرّي لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.
 
ضيفنا اليوم هو الروائي والمترجم السوري خليل الرز الذي أصدر حتى الآن تسع روايات، بدأها مع رواية سولاويسي (دار الحوار 1994)، وآخرها كانت رواية الحيّ الروسي (دار ضفاف ومنشورات الاختلاف 2019)، والتي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام.
 
في عام 1998 صدرت لخليل الرز مسرحيّة "اثنان" عن وزارة الثقافة السورية. وترجم عن الأدب الروسي لتشيخوف مجلدين، ومختارات قصصية ضمت أندرييف وبونين وإرنبورغ ونابوكوف وصدرت في عام 2005 عن وزارة الثقافة السورية.
 
خليل الرز ولد في 1956 في مدينة الرقة السورية حيث نشأ ودرس قبل أن ينتقل إلى حلب ليتابع تعليمه الجامعي، وحصل منها على إجازة في اللغة العربية من جامعة حلب.
 
ولدراسة المسرح سافر الرز إلى العاصمة الروسية موسكو، وعمل هناك في الإذاعة. بعدها عاد إلى سوريا، ليعمل في قسم التأليف والترجمة لدى وزارة الثقافة. وهو حاليا يعيش في بلجيكا التي انتقل إليها منذ سنوات.
 
وهنا شهادته عن الأسئلة التي طرحتها عليه الجزيرة نت.
 
واجب مدرسيّ غريب
كنتُ في الصف الخامس الابتدائي عندما طلب مني الأستاذ أن أنسخَ له ديوان "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب. هل كان الحصول على نسخة مطبوعة أخرى من الديوان صعبا جدا على معلم مدرسة في بلدة نائية، في تلك الأيام، مثل الرقة؟ لا أعرف، ولم يخطر ببالي هذا السؤال في ذلك الوقت. ولعل السبب الذي جعله يكلّفني، دون غيري من التلاميذ، بنسخ الديوان هو أن خطّي كان مقروءا بشكل جيد.
 
لم أكن سعيدا طبعا بهذه المهمة، فقد كنتُ، مثل كل التلاميذ الكسالى والمجتهدين، أستثقل كثيرا كتابة واجباتي المدرسية في المنزل، فما بالك بنسخ كتاب كامل بدا لي سميكا جدا من شدّة ضيقي. وكان لا بد من التضحية بجزء كبير من الأوقات العزيزة على قلبي، التي كنت أقضيها باللعب مع أولاد الحارة بعد الدوام، من أجل الانتهاء من هذه المهمة بأسرع وقت ممكن.
 
خفّة الكتابة ومتعتها الغامضة
ما حدث بعدئذٍ هو أنني اكتشفت، منذ الصفحات الأولى من الديوان، أن نسخ الشعر يختلف كثيرا عن كتابة الواجبات المدرسية. لقد كان مفاجئا لي أن لا أستثقل الكتابة لأول مرة في حياتي، وأن أتعرف في داخلي على متعة غامضة بِكْرٍ ما شعرت بها قط. هل كانت مواظبتي، على قراءة القرآن عند الشيخ بكري، في كلّ العطل الصيفية قبل ذلك، هو ما مهّد لإحساسي بالمتعة الغامضة في نسخ ديوان بدر شاكر السياب؟ ربما.
 
لا أعتقد أن كتبي وواجباتي المدرسية قد مهّدت لشيء من هذا القبيل، فقد كنت أمقتها ببساطة. ولم أكن أملك، بطبيعة الحال، من المعرفة لأعي بصورة أوضح انطباعاتي الحارة عن أول كتاب قرأته في حياتي خارج المناهج المدرسية. ما أذكره أنها كانت انطباعات مؤثرة إلى درجة أنها ظلّت حاضرة في ذهني بقوة بعد سنتين، حين صار عندي بطاقة استعارة من المركز الثقافي، فكانت دواوين السياب المتوفرة في المكتبة محطّ اهتمامي الأول.
 
لكن ما أثار انتباهي هو أنني شعرت بشيء من الخيبة بعد استعارتي هذه الدواوين وقراءتها، إذ لم أستطع معها أن أستعيد متعتي الغامضة الأولى التي تركها في داخلي ديوان أناشيد المطر، ولعل ذلك يعود -كما أعتقد الآن- إلى أنني قرأت ونسخت ديوان أناشيد المطر بينما اكتفيت بقراءة الدواوين الأخرى.
 
يبدو لي الآن، أن الكلمات التي تكتبها وتنطقها تختلف عن الكلمات نفسها إذا اكتفيت بقراءتها بعينيك فقط. كأنك، إذا كتبتها بيدك ونطقتها بلسانك أيضا، تصبح أكثر قدرة على الغوص فيها واكتشاف ظلال معان متخفية خاصة بك، ما كانت قراءة عينيك وحدها لتتيحها لك. وقد ظلّت تلك المتعة الغامضة هاجسي، ربما لثلاث سنوات تالية، فما توقفتُ عن استدراجها مرة أخرى، وأخرى، ليس فقط باستعارة كتب لمؤلفين آخرين وقراءتها، بل وبمحاولاتي المبكرة بالكتابة.
 
رسالة إلى خليل الرز
لسببٍ لا أستطيع تفسيره الآن شعرت ذات يوم بحاجةٍ، كأنما ماسّةٍ، إلى أن أكتب رسالة لشخص ما، فكان أول من خطر ببالي ابن عمي الذي يعيش مع أهله في حلب. لم أكن من قبل قد كتبت رسالة له ولا لغيره. ولا كان عندي، أصلا، ما أخبره به. جلستُ إلى طاولة أبي. أمامي قلم الحبر وورقة بيضاء اقتلعتها من أحد دفاتري المدرسية. كان ابن عمي من مجايليّ، وكنا نذهب معا، كلما زرت حلب إلى دور السينما والحديقة العامة، وأحيانا إلى حديقة "السبيل"، لالتقاط الصور التذكارية. غير أنني نسيت كلّ ذكرياتي معه، حين شرعت بكتابة الرسالة، ووجدتني أصف، دون أيّ غرض واضح لديّ، الحصانَ المسجون في إسطبلٍ شديد الضيق ذي بابٍ حديدي مفرّض بالقضبان يقع أمام بيت عمي مباشرة. دائماً كنت أراه، في كل زيارة، واقفاً، كأنما في انتظاري، وراء قضبان الباب، يمضغ شيئا، أو صافنا بحائط يقع عند خياشيمه تماما. ثم ذيّلت الرسالة باسمي وأرسلتها إلى خليل الرز، حلب، المشاطية، بجانب سبيل الماء وجامع الشيخ سعد اليماني.
 
كان ابن عمي، ولا يزال، يحمل اسمي نفسه وكنيتي نفسها. كأنني كتبتُ الرسالة لي وأرسلتها إليّ. لا أعرف ما إذا كانت قد وصلته، لكنني، حين قابلته بعد شهور، انتظرت أن يفاتحني برأيه في وصفي للحصان المسجون أمام باب بيتهم. لم يفاتحني بشيء، غير أن الرسالة التي أرسلتها إليّ ظلّت تُشعرني بشعور حلو جديد، وهو أنني أستطيع أن أصف حصانا مسجونا بشكل جميل. ثم عزّز شعوري ذاك، بعد فترة قصيرة عندما ترفّعت إلى الصف التاسع، أنني أحببت كثيرا ديوان ابن الفارض وأنني، في السنة نفسها، صعدت إلى خشبة المسرح لأول مرة كممثل كومبارس في مسرحية للهواة عُرضتْ في قرية السبخة، وأنني، بعد سنة، بدأت أثابر على قراءة ما كان يتوفر في مكتبة المركز الثقافي العربي في الرقة من الروايات المترجمة، عن الفرنسية بشكل خاص، فتعرّفت إلى إميل زولا وفيكتور هيغو وبلزاك وروجيه مارتان دو غار وغيرهم من معلمّي فن السرد.
 
المصدر : الجزيرة