الدستور
في الأزمنة القديمة، كانت السيوف تكتب التاريخ. ثم تولّت المدافع زمام الرواية. وبعدها، أصبحت الكاميرات والصحف والقنوات تُحدّد من هو البطل ومن هو الإرهابي، من هو المنتصر ومن هو الجلاد. لكن اليوم، في عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبرى، لم تعد الحروب تُخاض على الأرض فقط، بل على شاشاتنا، في عقولنا، وفي أعماق الحقيقة التي تتشكل أمامنا كل ثانية.
إننا نعيش بدايات حقبة غير مسبوقة من «حروب البيانات»، حيث لم تعد الحقيقة كما هي، بل كما تُصاغ. وفي هذا العصر، لا يُطلَب منك فقط أن تتعلّم وتُبدع، بل أن تنتبه لأن من لا يملك أدوات تحليل الواقع، سيُبرمج كي يرى ما يريده غيره، وسيُقنع أن الأبيض أسود، وأن العدالة مجرد رأي.
دعونا نسأل السؤال الصادم: من يكتب التاريخ الآن؟ الصحفي؟ المؤرخ؟ الأستاذ الجامعي؟ لا. إنها الخوارزميات. تلك البرامج الذكية التي تتغذى على تريليونات البيانات، وتقرر أي محتوى يظهر لك، ومتى، وكيف. هي من تصنع قصتك اليومية، وتُعيد تشكيل ذاكرتك الجمعية. وعبر الذكاء الاصطناعي، لم يعد التزييف فقط في الصور والفيديوهات، بل في المشاعر والانفعالات والتوجهات العامة.
تصوّر أن بإمكان خوارزمية واحدة أن تُحدّد كيف ترى العالم، بمن تتعاطف، ومن تهاجم، دون أن تشعر. فالمحتوى الذي يظهر لك على منصات التواصل ليس عشوائيًا. إنه مصمم بدقة ليُبقيك مستهلكًا، مشدودًا، مسيّرًا وكل ذلك يحدث وأنت تظن أنك تفكر بحرية!
ومع ظهور تقنيات «التزييف العميق» (Deepfake)، لم يعد مستبعدًا أن ترى رئيس دولة يعلن الحرب في فيديو مزوّر، أو أن تنتشر شهادة مزعومة على لسان عالم كبير، أو أن تتشكل موجة غضب شعبي حول حادث لم يقع أصلاً. وهكذا تتحول المعلومة من أداة معرفة إلى سلاح دمار شامل، يُخيف، يُضلّل، ويُحرّض.
وهنا بيت القصيد: الجيل القادم من الحروب لن يكون فقط على الحدود، بل داخل الهواتف المحمولة. داخل البيانات الشخصية. داخل القيم والثقافات والهويات. الحروب القادمة ليست لإسقاط أنظمة فقط، بل لإعادة تعريف الواقع نفسه، وتفكيك المجتمعات من الداخل، بزرع الشك، وتضخيم الخوف، وخلخلة الحقائق.
لكن، هل هذا يعني أننا ضحايا فقط؟ لا. فنحن أيضًا قادرون أن نكون صُنّاعًا للواقع، لا مجرد مستهلكين له. السلاح الأهم اليوم لم يعد البندقية، بل الوعي. الفهم العميق لماهية البيانات، وكيف تُستخدم، ومن يتحكم فيها.
الشباب العربي أمام مفترق طرق: إما أن نكون شعوبًا تستيقظ كل صباح على «ما تقرره الخوارزميات»، أو أن نُصبح من يبرمجها، من يُحدّد قواعدها، من يضع ضوابطها الأخلاقية ويُعيد توجيهها لصالح بناء مستقبل أفضل. فالمعركة لم تعد على الأرض فقط، بل على الذاكرة، على الإدراك، على الهوية.
علينا أن نُعلّم أبناءنا كيف يُفكرون، لا ماذا يفكرون. كيف يتحققون من المعلومة، لا كيف يحفظونها. كيف يصنعون أدواتهم الرقمية، لا كيف ينغمسون فيها. كيف يكونون مشاركين في كتابة قصة أوطانهم، لا مجرد جمهور يُصفّق للمنتصر.
ووسط هذه الحرب الرقمية المتصاعدة، علينا أن نستعيد الإيمان بقوة الإنسان أمام الآلة، بقوة الضمير أمام الخوارزميات، بقوة الفكرة النقية أمام الضوضاء المصنّعة. علينا أن نعود إلى جوهرنا الأخلاقي، إلى قيمنا الإنسانية، لنواجه تزييف الواقع بوضوح البصيرة، لا بسطحية الانفعال.
سيأتي يوم، ينظر فيه أحفادنا إلى هذه الحقبة، ويتساءلون: من كتب الحقيقة؟ من وقف في وجه التزييف؟ من كان له أثر في زمن فقدان البوصلة؟ فهل سنكون ممن يقودون، أم ممن يُقادون؟
إننا لا نعيش فقط في عصر البيانات بل في عصر المعنى. وفي زمن صارت فيه الآلة تكتب السردية، فإن الواجب الأسمى لكل إنسان واعٍ أن يكتب تاريخه بنفسه لا أن يُكتَب له.
في النهاية، ليست البيانات هي الخطر، بل من يستخدمها. وليست التقنية هي المشكلة، بل كيف نُربّي أنفسنا وأبناءنا لئلا نتحوّل إلى رقم في معركة لا نعرف حتى أننا جزء منها.