نحن نتألم ولا نتعلم. نمتعض ولا نتعظ. نحزن ونأسى ونننسى، وكأن ذاكرتنا غربالية المزاج نفاذة. لا نعتبر حتى من دمنا، ولا نعيد كَرة البصر لنطالع مصائنا وأسبابها. نشب كنار قشّ القيصوم والشيح، ونخمد كانطفاءة ضوء الجدار.
مساء أول أمس فجعنا بمقتل ثلاثة شباب على طريق ياجوز. واكتفينا، بنشر صور للحادث مع أن الأصل أن ننشر سببه. قولوا: هذا الحادث بسبب السرعة أو التجاوز الخاطئ أو تغيير المسرب. قولوا هذا للناس ؛ كي تؤخذ العبرة، هذا إن كنا ما زلنا نتعلم من كيس الغير لا من كيسنا.
فكم نالت منا الطرقات، وكم أقسمنا ساعة المصاب، ألا ندع السيارات تصير قبوراً مبعوجة مع راكبيها. وكم قررنا أن نصحح سلوكنا المجنون في الشوارع. وهيهات هيهات. فكأن ساعات الوجع لحظات منسية، وإلا ما سقطنا في عين الهاوية الحادث تلو الحادث، والفجيعة تلو الفجيعة. فالظاهر أن كل معالجة تجيء منسجمة مع إستراتيجيتنا العظيمة: (الفزعة وما يفزعون).
فقدنا في العام الماضي 562 إنسانا في معاركنا المرورية. وفي هذا العام سيزداد العدد. وهذا يوازي دخولنا حربا صغيرة، وينبئ كم نحن مختلفون حين نصير وراء مقود السيارة. الواحد منا يتغير كلياً وهو يسوق مع شديد الأسف. ولا يكون ذلك المتسامح الهادئ الكريم، المتصالح مع ذاته ومع الآخرين.
البعض لا (يحطُّ) واطياً، حتى لضوء سيارة شحيح. يعبس ولا يهادن، كأنه في مبارزة. يتضجر من ثانيتين على الإشارة الضوئية. بركاني المزاج، يزاحم بنزق وشتائم عابرة لحياء النوافذ. يريد أن يسبق الجميع، ولا يتجاوزه أحد.
للأسف بعضنا زنبركات مشدودة في قيادة السيارة، ودائماً متحفزون للانفجار كبارود مُحمّص، لا نتوانى عن قتال ذباب أنوفنا باليورانيوم المخصّب، إن لزم الأمر، أو لم يلزم. نقود بتوتر، وتشنج، ولا نسترخي، أو نستمتع بالقيادة، فهي ليست فناً. نشدُّ على المقود وندعس وكأن السيارة تتحرك بعضلاتنا وأعصابنا.
القاعدة الذهبية في سواقة السيارات، أن تتوقع الخطأ من الآخرين، وتتعامل بمبدأ أن كل السائقين والمارة مجانين وأنك العاقل الوحيد. ولولا هذه النظرة الاحترازية الإيجابية لدى بعضنا، لكانت حوادث المرور أضعاف رقمنا المهول.
نريد أن نتعلم من ألمنا، وألا ننسى كيف دفنا زهرات شبابنا، بأخطاء بسيطة على الطرقات. نريد ألا تأخذنا عزة السرعة والعناد و(الدقارة) والهبل وعدم التركيز، والتقليل من شأن الآخرين. كي لا نحيل نعمة السيارة إلى معاقين وقتلى وأحزان تتراكم.
نريد أن تعالج موضوعة الحوادث بعيداً عن هبهبات الفزعة وأخواتها. وأن نضع برامج توعية وردع محكمتين، ونهيئ الطريق كما ينبغي، وأن نغلظ عقوبة من يتهاون بالحياة، بدل أن نصب جل اهتمامنا في جباية مخالفات اصطفاف في شارع فرعي. دعونا نلتفت إلى القتلة المحتملين وراء مقود السيارات ونردعهم ونحميهم.