الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة
ديباك تريباثي* - (كاونتربنش) 2025/10/17
طالما كان الدعم الأميركي العسكري والاقتصادي والدبلوماسي مضمونًا، تمتعت إسرائيل بقدر كبير من الحرية في رسم سياساتها عبر الشرق الأوسط. ولكن مع تغيّر أولويات ترامب -وخاصة طموحه المعلن إلى أن يُنظر إليه كصانع سلام دولي يستحق جائزة نوبل- بدأت تلك الضمانة في التراجع والعوز إلى اليقين.
جلبت الهدنة الهشة في غزة بين إسرائيل وحركة "حماس" الفلسطينية، ولو مؤقتًا، نهاية لسفك الدماء المستمر منذ عامين بلا هوادة. وسوف يأمل أكثر من مليوني نسمة من سكان القطاع المحتل -ومعهم الشعوب في مختلف أنحاء العالم- في أن تصمد هذه الهدنة بما يكفي من الوقت لتشكيل إدارة جديدة تتولى مهمة تعافي القطاع وإعادة إعماره في السنوات المقبلة. وقد دُمّرت غزة بالكامل تقريبًا. وقُتل ما لا يقل عن 67.000 فلسطيني -وربما يتجاوز العدد النهائي هذا الرقم- بمن فيهم عدد لا يُحصى من النساء والأطفال؛ كما أُصيب كثيرون آخرون بجراح بليغة وإعاقات دائمة. بالإضافة إلى ذلك، ينتشر سوء التغذية والمجاعة في القطاع على نطاق واسع. ويسود الفقر والحرمان في كل مكان، مع نقص حاد في الغذاء والمأوى والرعاية الصحية. والآن، بعد عامين من القصف المتواصل، أصبحت غزة اليوم واحدة من أكثر بقاع الأرض دمارًا.
جاء اتفاق وقف إطلاق النار إلى حد كبير نتيجة لإصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على أن توقف حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة القتال. وعلى مدى أكثر من عامين بعد الهجوم المفاجئ الذي شنّته "حماس" على جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تحدى نتنياهو الرأي العام العالمي -وكذلك سلف ترامب، جو بايدن- واستمر في تنفيذ حملته الانتقامية. كما أن نظام التمثيل النسبي الفريد في إسرائيل، الذي يمكّن الأحزاب القومية المتطرفة والدينية الصغيرة من ممارسة نفوذ غير متناسب في تشكيل الحكومات، ترك نتنياهو مع القليل من المتسع لفعل شيء إلى أن تدخل ترامب. وبالإضافة إلى ذلك، كان لدى رئيس الوزراء دافع شخصي هو إطالة أمد بقائه في السلطة في ظل اتهامات بالفساد محليًا واتهامات أخرى بارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب وجهتها إليه الأمم المتحدة و"المحكمة الجنائية الدولية". والآن، إلى جانب ترامب، سيحاول نتنياهو أن ينسب الفضل إلى نفسه في تحقيق وقف إطلاق النار، على الرغم من أن مستقبله السياسي ما يزال غير مؤكد.
تحدّت تأكيدات نتنياهو المتكررة على خوض "حرب أبدية" ضد "حماس" والقضاء عليها النمط التاريخي الذي يُظهر أنه في الصراعات المطولة ومفتوحة النهاية -حتى أكثر الدول قوة تصل إلى نقطة تصبح فيها الكلف العسكرية والاقتصادية والأخلاقية لمواصلة الحرب غير محتملة وغير قابلة للاستدامة. وبالنسبة لإسرائيل -المنخرطة منذ وقت طويل في صراع مع جيرانها العرب- فإن حربها الممتدة لعامين على غزة، إلى جانب الأعمال العدائية التي شملت لبنان واليمن وسورية وإيران، قد استنزفت قدرًا كبيرًا من قوتها العسكرية واستقرارها الاقتصادي ومكانتها الدبلوماسية، لأنه طالما كان الدعم الأميركي العسكري والاقتصادي والدبلوماسي مضمونًا، تمتعت إسرائيل بقدر كبير من الحرية في رسم سياساتها عبر الشرق الأوسط. ولكن مع تغيّر أولويات ترامب -وخاصة طموحه المعلن إلى أن يُنظر إليه كصانع سلام دولي يستحق جائزة نوبل- بدأت تلك الضمانة في التراجع وفقدان اليقين.
لطالما كان ترامب، كرئيس، شخصية نفعية تتعامل بمنطق الصفقات والمقايضات والمصالح، تمامًا كما فعل طوال مسيرته المهنية. ومنذ بدء ولايته الثانية في البيت الأبيض، أظهر قدرًا أكبر من الدهاء في سعيه إلى تأمين ما يريد ومكافأة أولئك الذين يتبين أنهم مفيدون له. وقد حقق له نجاحه السياسي هذه المرة مكاسب شخصية ورمزية ضخمة. في لفتة جديرة بالملاحظة، أعلنت العائلة الحاكمة في قطر عن إهدائه طائرة فاخرة من طراز "بوينغ 747-8" -تبلغ قيمتها نحو 400 مليون دولار- لتحل محل طائرة "إير فورس ون" الحالية التي يستخدمها رئيس الولايات المتحدة. وفي المقابل، وقّع ترامب أمرًا تنفيذيًا يمنح قطر ضمانات أمنية في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على مكتب "حماس" في العاصمة القطرية. ووفق خطة إدارة ترامب، ستتم إعادة تجهيز الطائرة للاستخدام الرئاسي خلال فترة ولايته، ثم يتم تحويلها لاحقًا إلى "مكتبة ترامب الرئاسية". وكان عقد شركة "بوينغ" المنفصل مع الحكومة الأميركية لتزويدها بطائرة "إير فورس ون" جديدة قد واجه تأخيرات متكررة.
كما حصلت عائلة ترامب على صفقات تجارية مربحة أخرى في الشرق الأوسط وأماكن أخرى. وتواصل "مؤسسة ترامب"، التي يديرها الآن ابناه إيريك ودونالد جونيور، تنفيذ مشاريعها العقارية بينما يمارس ترامب مهامه في البيت الأبيض. وتمتلك المؤسسة عشرات العقارات في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك مشاريع حالية ومخطط لها في أميركا الشمالية والمملكة المتحدة وإندونيسيا، إلى جانب الشرق الأوسط. وتدير الشركة فنادق وملاعب غولف إلى جانب عقارات سكنية وتجارية محلية. ولعائلة ترامب علاقات تجارية وثيقة مع السعودية. وبالإضافة إلى مشاريع ترامب العقارية، حصل جاريد كوشنر -صهر ترامب ومستشاره السابق لشؤون الشرق الأوسط- على استثمار بقيمة ملياري دولار من صندوق الثروة السيادي السعودي بعد ستة أشهر فقط من مغادرته المنصب.
بينما استمرت حرب نتنياهو الطويلة على غزة، أصبح ترامب أكثر وعيًا بالعزلة الدبلوماسية المتزايدة التي تتعرض لها إسرائيل. في الأشهر الأخيرة، اعترفت دول عدة -منها كندا والمملكة المتحدة وفرنسا وأستراليا- بدولة فلسطين، ليرتفع عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي تعترف بها إلى أكثر من 155 دولة، وهو ما يشكل غالبية كبيرة من أعضاء المنظمة. وكان مهمًا ولافتًا بشكل خاص أن بعض هذه الدول هي من بين أقرب حلفاء واشنطن. وكانت سياسات ترامب التجارية القائمة على فرض الرسوم الجمركية قد تسببت بالفعل في توترات مع حكومات أخرى، وجاءت حملة إسرائيل المستمرة في غزة لتضيف تعقيدًا غير مرحب به إلى هذا المشهد. وبما أن ترامب كان قد أظهر نفورًا من التورط في حروب خارجية مثل الحرب في أفغانستان، فإنه رأى أن حرب غزة الممتدة لعامين كانت مكلفة للغاية -عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا- وسعت إدارته إلى النأي بنفسها عنها.
مع ذلك، ما تزال الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحاصرة محفوفة بالمخاطر. ربما تم إضعاف "حماس"، لكنها لم تُهزم. ما يزال تنظيمها قائمًا، وما تزال المجموعة تواصل العمل للعثور على طرق للمقاومة وإثبات وجودها. وتستمر الاشتباكات بين الجانبين بينما تستمر إسرائيل في معاقبة سكان غزة عن طريق تقييد إمدادات الغذاء والدواء الأساسية. وما يزال شكل الإدارة المقبلة في غزة غير واضح. وفي الوقت الراهن، تهيمن تعبيرات الأمل -بل والابتهاج في بعض الأوساط- على اللحظة. ومع ذلك، تبقى احتمالات التوصل إلى هدنة دائمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين خالية من اليقين إلى حد كبير.
*د. ديباك تريباثي Deepak Tripathi: مؤرخ وباحث بريطاني من أصل هندي، وزميل في الجمعية التاريخية الملكية والجمعية الآسيوية الملكية لبريطانيا العظمى وإيرلندا. عُرف بكتاباته التحليلية حول العلاقات الدولية، وسياسات الولايات المتحدة، وصراعات الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مع تركيز خاص على جذور العنف السياسي والإمبريالية الحديثة. شغل مناصب صحفية وأكاديمية، وعمل سابقًا في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) قبل أن يتفرغ للبحث والتأليف. من أبرز مؤلفاته: "أرض خصبة: أفغانستان وجذور الإرهاب الإسلامي" (2011)، و"تصميمات إمبراطورية: الحرب والإذلال وصناعة التاريخ" (2013)، و"أفغانستان ومتلازمة فيتنام: مقارنة بين الحروب الأميركية والسوفياتية" (2023).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Netanyahu’s “Forever War” on Gaza: What Made It Unsustainable