الملك عبد الله الثاني ... صوت غزة في العالم*أ. د. ليث كمال نصراوين
الراي
في كلمته أمام قمة الدوحة العربية الإسلامية الطارئة، جدّد جلالة الملك عبد الله الثاني تموضع الأردن كصوتٍ صريحٍ للحق الفلسطيني، مؤكداً أن ردّ العالم على جرائم الاحتلال يجب أن يكون واضحاً وحاسماً ورادعاً. ولم يكتفِ الملك بالتنديد بالعدوان، بل دعا إلى خطوات عملية تتجاوز البيانات التقليدية، عبر بلورة موقف جماعي يمنع استمرار المأساة في غزة، ويوقف محاولات التهجير، ويؤكد أن حماية المدنيين الفلسطينيين مسؤولية دولية لا يجوز التهاون بها.
لقد جاءت هذه اللغة الصريحة في قمة الدوحة امتداداً لخطابات ملكية سابقة كان فيها الملك صوت غزة الحي الناقل لمعاناة أهلها منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الغاشم على القطاع المحتل في أكتوبر 2023. فمنذ ذلك الوقت، استغل جلالته كافة المنابر الإقليمية والعالمية لإطلاق صرخات مدوّية دعا فيها دول العالم إلى تحمّل مسؤولياتها القانونية الدولية تجاه المدنيين الفلسطينيين. وبذلك، لم تكن خطابات الملك مجرد مداخلات دبلوماسية روتينية، بل نصوص سياسية وقانونية وأخلاقية تؤسس لرواية دولية بديلة تقوم على أساس العدالة غير القابلة للتجزئة، وعلى إنسانية لا يمكن أن تكون خياراً تفاوضياً.
ففي كلمته أمام الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة في أيلول 2024، حذّر الملك من أزمة تهدد المركز القانوني والشرعية الدولية للأمم المتحدة، معتبراً أن المنظمة باتت مهددة بانهيار ثقة العالم بها وفقدان سلطتها الأخلاقية. وقد عكس هذا التشخيص إشارة واضحة إلى عجز المنظومة الأممية عن حماية أطفال غزة ونسائها وشيوخها، بحيث لم يعد العَلم الأزرق فوق مدارس الأونروا وملاجئ غزة رمزاً للأمان، بل شاهداً على المأساة. وأكد الملك في هذا السياق أن هذا العجز طال عاماً كاملاً، فيما العاملون الإنسانيون يتعرضون للتشهير والاستهداف.
كما لم يتوقف حديث الملك عند غزة وحدها، بل وسّع نطاق خطابه ليشمل الضفة الغربية والقدس، مذكراً بأن الانتهاكات الصارخة للوضع التاريخي والقانوني في المقدسات الإسلامية والمسيحية لا تزال مستمرة بلا توقف. ومن خلال هذا الربط بين مأساة غزة ومجمل المشروع الاحتلالي، شدّد الملك على أن الأردن لن يقبل بأي تهجير قسري أو مشروع وطن بديل، معتبراً أن التهجير جريمة حرب مكتملة الأركان. وهذه الرسائل المترابطة تكشف عن رؤية شمولية ترى أن مواجهة المشروع الاستيطاني لا يمكن أن تتجزأ بين غزة والضفة والقدس، وأن الدفاع عن الحقوق الفلسطينية كلٌ لا يتجزأ.
وفي حزيران 2025، ارتفع خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي إلى مستوى نقد إنساني عالمي بعيداً عن الحسابات الضيقة. فقد اعتبر أن العالم يبدو وكأنه فقد جاذبيته الأخلاقية، وأن هناك صورة مشوّهة للإنسانية تتكشف أمام أعين الجميع في الزمن الحقيقي، حيث أصبح ما كان يُعد غير متصور أمراً روتينياً. وبيّن الملك أن استخدام المجاعة كسلاح ضد الأطفال واستهداف العاملين الصحيين والصحفيين والمدنيين الباحثين عن مأوى في المخيمات أصبح جزءاً من مشهد يومي مخزٍ، الأمر الذي لا يقتصر على إسرائيل وحدها بل يشمل أيضاً المنظومة الدولية المتواطئة بالصمت أو الانتقائية. وهنا حمّل جلالته العالم بأسره مسؤولية انهيار المعايير الإنسانية.
وإلى جانب هذا البعد الأخلاقي والقانوني، لم يُغفل الملك الجانب العملي والإنساني. فقد دعا مراراً إلى إقامة ممر إنساني لغزة، مؤكداً أن المساعدات لا يجوز أن تكون أداة حرب، وأن الإنزال الجوي لا يمكن أن يكون بديلاً عن إدخال المساعدات عبر قوافل منظمة. كما شدّد في لقاءاته الدولية على رفض الأردن لأي محاولات لإخراج سكان غزة أو استيعابهم خارج أرضهم، مؤكداً دعمه لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وهنا يتضح أن الموقف الأردني لم يكن موقفاً أخلاقياً فقط، بل هو أيضاً دفاع عن استقرار إقليمي، فإضعاف غزة أو تهجير سكانها يعني تفجير المنطقة بأكملها.
ومن المنتظر أن يواصل الملك رسالته الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، خاصة مع اقتراب افتتاح الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يتوقع أن يطلق صرخة ملكية جديدة محذّراً من أن العالم يقف على شفير انهيار الشرعية الأخلاقية الدولية، في ظل الفوضى الإقليمية والاعتداءات الإسرائيلية المتزايدة على سيادة الدول العربية. فخطاباته القادمة ليست مجرد تذكير بالحقوق الفلسطينية، بل هي نداء لإعادة بناء النظام الدولي على أسس العدالة، لأن فقدان هذه الأسس يعني الانزلاق نحو فوضى لا يمكن التحكم بنتائجها.
إن هذا الانهيار الأخلاقي العالمي يعود في جوهره إلى الانتقائية في تطبيق قواعد القانون الدولي، وإلى إفلات الجناة من المساءلة الدولية، وهو ما يبدد الأمن ويفجّر حوافّ الإقليم من غزة إلى لبنان. ومن هنا، فإن مشاركة جلالة الملك في ذكرى اليوبيل الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة ستكون فرصة لإعادة التأكيد على أهمية إصلاح النظام الدولي وإعادة الاعتبار لدور المنظمة بوصفها حارساً للقانون الدولي لا شاهداً على انهياره. فبقاء هذه المؤسسة رهين بقدرتها على إنصاف الشعوب المظلومة، وتظل القضية الفلسطينية الاختبار الأبرز لمصداقية النظام الدولي اليوم، إذ لا يمكن للعالم أن يطالب بالسلام والاستقرار بينما يتجاهل الجرح الفلسطيني النازف.