عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Aug-2020

«أوراق هارون».. المأساة والهوية

 

الأستاذ الدكتور إبراهيم السعافين
الدستور- استطاع عامر طهبوب في رواية «أوراق هارون» أن يقف عند جذور المأساة الفلسطينية، وأن يوظّف التاريخ المكتوب والشفاهي، ليصوّر المؤامرة العالمية ضدّ شعب مسالم متحضّر، مُفنّداً أسطورة العدو والقوى الإمبريالية والقوى الخفيّة التي تتحكم في المال والإعلام والسياسة والتاريخ والجغرافية التي ترى أن عملية الإحلال في جوهرها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وقدّم إضاءات من خلال الشخصيات الفاعلة في الرواية على حياة الفلسطينيين الذين أُجبروا على الخروج من بلادهم قسراً بفعل القتل والمذابح والاغتصاب، وعاشوا في مخيمات اللجوء، يتعرّضون بين الحين والآخر لعمليات قتل أو تهجير جديدة، وصوّر حالة العرب في إبّان النكبة من الضعف والتخاذل والانقسام وقلّة الحيلة، وقد عمد إلى ذكر عشرات الأسماء في مختلف المجالات الحضارية، ليفنّد مزاعم السياسيين والمفكرين الصهاينة الذين صوّروا المجتمع الفلسطيني مجتمعاً من الفلاحين والبدو البسطاء الأميين
توسّلت رواية عامر طهبوب «أوراق هارون» بحيلة فنية حين اعتمدت على مخطوطة احتفظ بها هارون والد البطل في خروجه من يافا، وهو أشبه بالمذكرات، وتوسّل بالمدونة التاريخية الرسمية والشفوية، وتتجلّى في الاعتماد على مواد تاريخية من مصادر متعددة تتتناول تاريخ القضية الفلسطينية من أواخر العصر العثماني حتى النكبة عام 1948 وما بعدها، وقد ظهرت هذه المدونة التاريخية مكثفة في الأوراق السبعة؛ تجلّت في الحوادث وأسماء الأعلام في مجال السياسة والإدارة والاجتماع والاقتصاد والتجارة والزراعة والتربية والشؤون العسكرية إلى جانب أسماء المهنيين الذين كان لهم دور بارز في الحياة العامة.
ويلفت النظر في هذه الرواية تداخل الأجناس من السيرة والمذكرات وأدب الرحلات، فثمّة معلومات وتفصيلات عن الأحداث والأماكن والشخصيات في «أوراق هارون»، وثمّة تفصيلات دقيقة للمكان في بلجيكا وهولندا وجورجيا وغيرها من متاحف ومقاه وفنادق وشوارع ودور ترفيه وأنهار وجسور وشواطيء ووسائل مواصلات وأثاث ورياش وملابس وحدائق ودور عبادة ومبان ونحو ذلك.
وقد اعتمدت الرواية في بنيتها على المراوحة بين زمن البطل والحكايات التي تجري في الجامعة، وزمن الأوراق التي تصوّر مجريات الأمور في يافا وفلسطين قبل عام 1948، وتوسّلت الرواية أيضاً بتقنية تداخل الزمان والمكان، فالرواية تدور في مدينة «غنت» حيث الجامعة البلجيكية التي يدرس فيها «يامن» بطل الرواية الحقوق، وهو من مخيم «الداعواق» في لبنان ما لبث أن سُوّي بالأرض في أعقاب الحرب الأهلية والاجتياح الصهيوني لبيروت، وفي بيروت حيث الوالد والأم مريم الناصرية والعائلة، وفي يافا قبل عام 1948، فالرواية إذن تدور في بيئات عربية وغربية، نتعرف على بلجيكا وهولندا وغيرها في الغرب، ولبنان وفلسطين والمغرب وغيرها، وتتداخل الأزمان بين زمن الرواية في الثمانينات وزمن ما قبل 1948 في يافا، ثم ما بعد ذلك في أماكن أخرى.
وتعتمد الرواية كما أشرنا على مدونة هي مخطوطة أقرب إلى يوميات كان يسجّل فيها هارون مجريات الحياة في يافا بخاصة وفي عموم فلسطين، إذ احتفظ هارون بهذه المذكرات في دفترين، وبدا هذان الدفتران مرتكز الرواية واشتباك الأحداث بالشخصيات، فثمّة أحداث تجري في زمن السّرد، وثمّة أحداث مستعادة من أيام يافا.
وقد أقام عامر طهبوب روايته على قصتي حب، أولاهما علاقة يامن ابن يافا مع ياردينا الهولندية اليهودية، وقد بدا الحب بينهما صادقاً وحميماً رسّخته العلاقة الجسدية، لكن ظلت ديانتها اليهودية هاجساً يظهر على لسانه في مناسبات كثيرة، وتجهد ياردينا أن تجعله ينسى هذا الحاجز، ولا سيّما أنها تفهمّت معاناته وتعاطفت مع الفلسطينيين، وحاولت أن تقيم مفاصلة بين اليهودي والإسرائيلي والصهيوني، وتحدث مصادفة غريبة حين تأتي من يافا طالبة اسمها «ليّا» تدرس في جامعة «غنت» وبالمصادفة المحضة تحدّثه عن اسم أمها داليا وعن أخواتها وأخيها «وطن»، وهي الأسماء التي كان يذكرها هارون، فعرف أن أمّها هي خطيبة والده وحبيبته التي فرّقت بينهما الأقدار حين رفض والد ليّا أن يترك يافا، وفضّل الموت على الغربة. وعندما ماتت جدّته سافر إلى بيروت للعزاء، واغتنم الفرصة ليفاتح أسرته بأمر الحبيبة ياردينا، ولكنه جوبه بالرفض من جميع الأسرة، ولم يقابل حجج الأسرة بالتعنّت، وحين عاد إلى «غنت» حاول أن يتعرّف على رأي الأستاذة الجامعية الأربعينية «سمَر»، فكان رأيها مطابقاً لرأي الأسرة، وشارك في هذا الرأي كل من أحمد وليّا.
ثمّة جفوة حدثت بينه وبين ياردينا مع احتفاظهما بالحب، ونكتشف أن أهل ياردينا رفضا هذا الزواج ، ليس لأنه فلسطيني وحسب، بل لأنه عربي أيضاً، باستثناء أختها «ليئا». اكتشفا أن ثمّة كراهية تجمع الطرفين؛ كراهية الضحية التي سُرِقَت أرضه وهُجّر، فهو لا يطيق أن يسمع اسم السّارق، ولا يريد أن يتعامل معه، فإن تزوّج يامن من يهودية مهما تكن، فسيكون مصيره النبذ والوحدة، حتى الفلسطيني في الداخل إذا تزوّج من يهودية، فسيكون مصيره النبذ في تل أبيب، وإذا عاش في التجمعات العربية، فسيتّهم بالجاسوسية والخيانة.
شعر «يامِن» بأنه يجب أن يحترم ياردينا ولا يجرحها، وهي تفهّمت الموقف، ولم يعد بينهما أي اتصال جسدي، لأن مثل هذا الاتصال يجعل فرصة الابتعاد ضعيفة، وكانت كل المؤشرات تتّجه نحو تقوية العلاقة بين يامن وليّا، من شعور بالأخوّة إلى شعور بالحب الحقيقي، وراح يكتشف جمال روحها وجسدها، وراحت هي تشعر بالغيرة والحب الشديد، وتتمنى أن يلتفت إليها. كانت ليّا موضوعية ومتفهمّة لعلاقة يامن بياردينا، ولا سيّما حين رأتها وليئا يلبسان الثوب الفلسطينيين في عرس «مَكا» الجورجية وأحمد المغربي في مدينة «لييج» البلجيكية. نجح زواج أحمد ومّكا، ولم ينجح زواج يامن لأن مكا ليست يهودية ولم يكن أحمد فلسطينياً، وربما نجح حتّى لو كان فلسطينياً.
الشيء غير المتوقّع ألّا يُفضي حب يامن وليّا إلى زواج حتّى بعد وفاة والد ليّا وبقاء الأمر في يد أمّها داليا وأخيها وطن، فقد كان الاتفاق على الزواج قاب قوسين أو أدنى حين أطلقت مريم الناصرية أم يامن، زغرودة ابتهاجاً بسماع الخبر، وأطلقت أمّهاداليا زغرودة أخرى، ولكن أهلها طلبوا مهلة للتفكير وابنتهم تتزوّج من شاب خارج الديار. كان كل شيء مهيأ أمام موافقة ليّا، فقد نال يامن الرتبة الأولى بين الناجحين في ليسانس الحقوق، وحصل نتيجة هذا التفوق على منحة مجانيّة لدراسة الماجستير تتضمّن الرسوم ونفقات المعيشة، وحثل على الجنسية البلجيكية، ولكن الأمور تجري عكس ما أمّل، والغربي أن ليّا نفسها كانت مقتنعة بما اقتنع به جدّها لأمّها من قبل، وهو ألّا تغادر يافا، إذ أنّها لا تودّ أن تحيا خارج يافا، ولا تريد لأولادها أن يُحرموا من العيش فيها. طلب منها يامن ألّا تصرّ على موقفها وتدع الحلّ للظروف، فوافقت، ولكن كل شيء يدلُّ على أن عدم الزواج من يامن كان قرارها الأخير، فلعلّ جيلاً غير جيل هارون وداليا، وجيل يامن وليّا يستطيع تحقيق الأمل بالعودة إلى يافا والزواج في فلسطين.
أحسّ يامن أن كل الطرق مسدودة في وجهه، فلا يستطيع أن يهنأ بالحب والزواج والحياة الطبيعيى، وكأنّ عليه أن يتزوّج القضية، وبدل أن يبدو الضيق عليها، كانت ليّا تتقمّص دور الحكيم الذي يوصي بالصبر، ويحضُّ على التفاؤل: «خرجت وليّا نسير في شوارع المدينة، أمسّكَت بيدي فور خروجنا من المقهى، ولم تتركها إلّا عندما وصلت باب البناية، ودّعتها واتفقنا على اللقاء في الغد. توجّهت إلى مقهى «دامبَرد»؛ أعددت فنجاناً من القهوة، وجلست في زاوية بعيدة عن الأنظار، أشعلت سيجارة، لكن الدمع انهمر من عينيّ قبل أن أشرب قهوتي. قلت: آخ، آخ، آخ . زار ذاكرتي محمود درويش: «أما كان من حقّنا أن نُحِبّ كباقي القطط؟».
وحين التقيا مرة أخرى في المقهى، بدا التفاؤل عليها بمستقبلهما أو بمستقبل القضيّة، ربما.: «انتقلت ليّا إلى جانبي، أمسكت بيدي وهي تبتسم، ابتسامتها خزّان من الأمل والتفاؤل والرغبة في الحياة، يُخفيه الفلسطيني في مكان آخر من جوفه. وضعت يدي على كتفها اليمنى مبتسماً، لكن السؤال ما زال يطرق رأسي كمهدّة: أما كان من حقّنا أن نُحبّ كباقي القطط؟. تذكّرت القطط الدّاشرة على مزابل الداعوق، شعرت بحنين لأبي وأمي، ووجه أختي سلمى، افتقدت سالم ياسين ، ويوسف نعنع، وأرنوب، ونعمان العاشق، وافتقدت «بُضا»، وأحمد ومكا، وافتقدت ياردينا.
نجح طهبوب في إقامة تواز بين يافا واللجوء من خلال ياردينا وليّا ابنة يافا. وليس أصدق في التعبير عن حجم مأساة يامِن اللاجيء الفلسطيني من حرمانه من حياته العاطفية في فشل زواجه من حبيبته ياردينا، ثم من حبيبته الأخرى ليّا، ولعلّ من أهم ما تعرّضت له الرواية، قضية طمس الذاكرة المتمثلّة بذاكرة المكان، فاللاجيء الذي طمست معالم مدينته أو قريته أو دُمّر بيته، نرى مكان ولادته يُطمَس هو الأخر، فقد طُمِست معالم البيت الذي ولد فيه يامن في «الدّاعوق» بعد أن مًسِح المخيّم نفسه من الوجود.