عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Nov-2025

حروب نتنياهو هروب من أزمات الداخل*حسن الدعجة

 الغد

تُظهر مسارات الأحداث في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ السابع من أكتوبر، ارتباطاً وثيقاً بين السياسات العسكرية التي تنتهجها حكومة بنيامين نتنياهو وبين الوضع الداخلي المتأزم الذي تعيشه البلاد، فالأزمة الداخلية العميقة، الممتدة من الانقسامات الاجتماعية والسياسية وصولاً إلى المحاكمة الجارية بحق نتنياهو بتهم الفساد، تُعد عاملاً مركزياً في فهم اندفاع الحكومة نحو تصعيد العمليات العسكرية ومحاولة تقديم هذا التصعيد بوصفه ضرورة أمنية مطلقة.
 
 
 ومع تراكم الإخفاقات السياسية والعسكرية، يتزايد الميل لدى نتنياهو إلى استخدام الأمن والحرب كأدوات لإعادة صياغة صورته وإبعاد الأنظار عن أزماته الشخصية والسياسية.
منذ عودته إلى الحكم على رأس أكثر حكومة يمينية وقومية  متطرفة  في تاريخ إسرائيل، واجه نتنياهو موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات الشعبية. هذه الاحتجاجات لم تكن فقط ضد خطط تعديل السلطة القضائية، بل كانت تعبيراً عن أزمة ثقة عميقة بين قطاعات واسعة من الإسرائيليين وحكومتهم. ومع تفجّر هذه الانقسامات الداخلية، أصبح نتنياهو في موقف سياسي هشّ، إذ تحولت قضيته القضائية من مسألة قانونية إلى أزمة سياسية تهدد مستقبله. في مثل هذا السياق المشحون، بدا أن أي حدث أمني كبير يمكن أن يشكل فرصة لإعادة ترتيب الأوراق، وهو ما جعل السابع من أكتوبر مفصلاً حاسماً.
الهجوم المفاجئ في 7 أكتوبر كشف ضعفاً غير مسبوق في المؤسسات العسكرية والأمنية التي طالما تفاخر نتنياهو بأنه حافظ قوتها. هذا الفشل الذريع ضرب جوهر الرواية التي بنى عليها جزءاً كبيراً من إرثه السياسي، والمتمثلة في كونه "القائد المنقذ". ومع اهتزاز هذه الصورة، لم يجد نتنياهو سوى التوجه نحو حملة عسكرية واسعة النطاق، مُقدّماً نفسه مرة أخرى بصفته الرجل الوحيد القادر على “استعادة الردع” و“حماية الأمة”. لكن هذه الحملة، بدل أن تُخفي الإخفاقات، أصبحت في كثير من الأحيان تذكيراً بها، خاصة مع فشل الحكومة في تحقيق أهدافها المعلنة حتى اليوم، ومع تزايد الانتقادات الدولية والداخلية لأسلوب إدارة الحرب.
الربط بين الاعتداءات العسكرية والوضع الداخلي ليس مجرد قراءة سياسية تحليلية، بل بات موضوعاً مطروحاً داخل إسرائيل نفسها. فجزء من النخب السياسية والأمنية يرى أن استمرار الحكومة في توسيع العمليات العسكرية يخدم بصورة مباشرة حاجة نتنياهو إلى البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. فطالما أن الحرب مستمرة والضربات العسكرية والاغتيالات في غزة ولبنان كما حصل قبل يومين ، يستطيع رئيس الوزراء الدفع بحجج الأمن القومي لتأجيل النقاش الداخلي حول مسؤوليته عن إخفاقات ما قبل الحرب وأثناءها. كما أن استمرار المواجهة المسلحة يوفر له مظلة سياسية تبعد الخطر المباشر المتمثل في إمكانية إسقاط الحكومة، أو الضغط عليه لتقديم استقالته أو مواجهة لجان التحقيق التي ستتشكل عاجلاً أو آجلاً.
وليست الاعتبارات الداخلية منفصلة عن محاولة نتنياهو وشركائه رسم صورة “القائد البطل المنقذ”. فالحكومة تحاول باستمرار إظهار الحرب باعتبارها لحظة مصيرية في تاريخ إسرائيل، بما يستدعي التفافاً وطنياً خلف القيادة. لكن هذا السرد يصطدم بحقائق على الأرض: تآكل الردع الإسرائيلي، فشل الأجهزة في الكشف المبكر، العجز عن إنهاء الحرب، وتراجع مكانة إسرائيل الدولية اضافة الى العزلة الدولية. ومع كل هذه العوامل، يصبح تصوير نتنياهو في دور القائد الذي يملك الحلول أمراً صعباً، إلا إذا كانت الرواية الرسمية مكثفة بما يكفي لتغطية التناقضات.
المسألة لا تتعلق فقط بسمعة نتنياهو الشخصية، بل ببنية النظام السياسي الإسرائيلي نفسه. فاستثمار الحكومات في الأزمات الأمنية ليس جديداً، لكنه اليوم يأخذ بعداً أكثر عمقاً، نظراً للانقسام الداخلي الحاد الذي سبق الحرب. المعارضون يتهمون نتنياهو بأنه يستغل الحرب لتجميد النقاش حول التعديلات القضائية، ولإسكات الاحتجاجات التي أصابت حكومته بالشلل قبل أكتوبر. في المقابل، ترى قواعد اليمين أن استمرار الحرب يبرر بقاء الحكومة، وأن تغيير القيادة خلال المواجهة قد يشكل خطراً على الأمن القومي. وبين الروايتين، ينجح نتنياهو في شراء المزيد من الوقت داخل الحكم.
 ومع اقتراب نهاية الحرب أو حتى انتقالها إلى مرحلة أقل زخماً، سيعود السؤال الأكبر إلى السطح: من يتحمل مسؤولية ما حدث؟ يدرك نتنياهو أن الإجابة قد تكون مدمرة لصورته السياسية. لذلك، من الواضح أن لديه مصلحة في إطالة أمد العمليات، أو على الأقل في إبقائها في حالة “عدم الانتهاء”، بحيث يظل النقاش الداخلي مؤجلاً. فكلما بقيت إسرائيل في حالة طوارئ، كلما أصبح من الأسهل على الحكومة صرف الأنظار عن الإخفاقات البنيوية، وخصوصاً تلك التي تُظهِر أن الدفاع الأكثر صلابة الذي يدعي نتنياهو تقديمه كان مجرد وهم.
لا يمكن فصل الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة عن الأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل وعن المصالح الشخصية لنتنياهو. فالحرب، بكل تبعاتها، أصبحت مساحة يستخدمها رئيس الوزراء لإعادة صياغة صورته ومحاولة النجاة من محطته السياسية والقانونية الأكثر خطورة. لكن هذا المسار، مهما طال، لا يلغي حقيقة أن المجتمع الإسرائيلي سيضطر عاجلاً أم آجلاً لمواجهة أسئلة عميقة حول القيادة والشرعية والمسؤولية، وحينها قد لا تنفع أي رواية بطولية في إخفاء الحقيقة.