"يوتيوب شورتس".. جليسة أطفال رقمية تتسلل للعقول بمحتوى سام
الغد-نمير عبدالله
فيديو تلو الآخر، تسرق المقاطع القصيرة انتباه الطفل لتصبح جزءا لا يتجزأ من يومه، ويتزايد اعتماد الأهل على الهواتف لإلهاء أطفالهم في المطاعم أو خلال الرحلات الطويلة. وما يثير القلق اليوم، تحول منصات مثل "يوتيوب شورتس" و"ريلز" إلى ما يشبه "جليسة أطفال رقمية" تجذبهم بمحتواها وأشكالها وألوانها ويقضون أطول وقت ممكن بمتابعتها.
فخ معقد لمقاطع مولدة بالذكاء الاصطناعي
لكن خلف الواجهة اللطيفة لمقاطع القطط الملونة والمولدة بالذكاء الاصطناعي (AI)، والتي تبدو مسلية وبريئة، يكمن فخ معقد؛ ففي ثنايا هذه الفيديوهات الجذابة يتسلل محتوى سلبي وسام، مصمم ليتجاوز فلاتر الأمان.
يبدأ "الشورتس" بعرض قطة كرتونية ظريفة، لكن السيناريو ينتقل فجأة ليظهر قصص الخيانة، العنف الأسري، أو التنمر والعنصرية. وفي أحيان أخرى، تظهر أدوات حادة ونيران ومشاهد مؤذية ضمن سياق قصصي ملون يجذب انتباه الطفل.
هذه الظاهرة ليست عشوائية، ففي دراسة لجامعة البلقاء التطبيقة، ظهر أن منصة يوتيوب هي الأكثر استخداما بين الأطفال في الأردن، سواء في مرحلة ما قبل المدرسة أو بين المراهقين، ويتم هذا الاستخدام دون أي اعتبار لتأثيرها على النمو النفسي والأخلاقي للطفل. فالإيقاع السريع والمحفزات البصرية والصوتية المتلاحقة تؤثر مباشرة في دماغ الطفل الذي ما يزال في طور التشكل، وتزرع داخله معلومات خاطئة وصوراً ذهنية مشوشة.
أثر الإيقاع السريع للفيديوهات على نمو الطفل
بدورها توضح الاختصاصية النفسية للأطفال والمراهقين، أسماء طوقان، أن العيادات شهدت إرتفاعا متسارعا في عدد الأطفال الذين يتعلقون بهذه المقاطع، مشيرة إلى أنه عند محاولة الأهل الحد من وقت المشاهدة، يظهر بعض الأطفال سلوكيات عصبية أو مشاعر حزن وتوتر.
ووفق طوقان فإن هذه المقاطع، المصنوعة غالبا بالذكاء الاصطناعي، تعتمد على حركة سريعة، ألوان قوية، ومؤثرات مبالغ فيها تجذب الطفل مباشرة وتجعله يطلب المزيد منها بشكل متكرر.
وعندما يحاول الأهل التدخل، قد يظهر بعض الأطفال سلوكيات عنيفة أو عصبية، وهي أعراض تصفها طوقان بأنها تشبه "الانسحاب المفاجئ" من هذا النمط المليء بالمحفزات.
ارتفاع مستوى التنبيه في دماغ الطفل
وتضيف طوقان أن هذه المقاطع ترفع مستوى التنبيه في دماغ الطفل بشكل مستمر، فيعتاد على هذا التدفق السريع من الإثارة، وتكون النتيجة أن المهام البطيئة التي تتطلب تركيزا، مثل الدراسة أو القراءة أو حتى النقاش اليومي العادي، تصبح "صعبة ومملة" بالنسبة له.
سر هذا التأثير القوي يعود إلى طريقة تصميم هذه الفيديوهات؛ فهي مبنية على لحظات متلاحقة من التشويق والمفاجآت التي تحفز إفراز الدوبامين، وهو الهرمون المرتبط بالشعور بالسعادة. وهذا ما يدفع الطفل للانتقال من مقطع إلى آخر بلا توقف، حيث يبحث عن الجرعة التالية من الإثارة. ومع تكرار هذا النمط، تتراجع مهارات الطفل الاجتماعية، إذ يميل إلى الانعزال ويقل تفاعله اللفظي والعاطفي والجسدي مع محيطه، وتظهر عليه أحيانا أعراض تشبه إلى حد كبير اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة.
خوارزميات لبقاء الطفل على الشاشة
ومن الناحية التقنية، يوضح الخبير في المجال التقني وصفي الصفدي، أن ما يغذي هذه الظاهرة هو "خوارزميات التوصية"، فهذه الأنظمة الذكية لا يهمها سوى هدف واحد: إبقاء الطفل على الشاشة أطول وقت ممكن. فهي تراقب مدة مشاهدته، ونوع المحتوى الذي أعاد مشاهدته، وتفاعله، ثم تقدم له مقاطع مشابهة للحفاظ على بقائه، وضمن حلقة مفرغة من الاستهلاك الرقمي.
ويشير الصفدي إلى دراسة من جامعة كورنيل تناولت هذا الأمر، حيث أظهرت أن خوارزمية "يوتيوب كيدز" وحدها زادت زمن المشاهدة بنسبة 23 % عند عرض مقاطع مشابهة بصريا لما شاهده الطفل مسبقا.
ورغم إعلان المنصات أن البيانات التي تجمعها "غير محددة الهوية"، فإن تحليلها يكفي لرسم أنماط دقيقة تسير عملية التوصية وتوجيه المحتوى.
ويضيف الصفدي أن أنظمة الحماية الحالية عاجزة، فرغم استخدام المنصات للذكاء الاصطناعي لرصد المحتوى غير المناسب، إلا أن تقريراً لجامعة ستانفورد كشف أن دقة كشف المحتوى العنيف الصريح تقارب 80 %، لكنها تهبط إلى 60 % فقط عندما يتعلق الأمر بالمحتوى"المموّه" والمخفي داخل سياق بريء.
قانون الحماية والأمان على الإنترنت
وهذا ما يفسر كيف يتسلل الأذى، حيث وجدت دراسة لجامعة كامبريدج في العام نفسه أن حسابات أطفال بعمر 13 سنة تعرضت لمحتوى غير مناسب بنسبة 15 % خلال أول ثلاث دقائق فقط من التصفح.
وأمام هذا الواقع، يشير الصفدي إلى أن التشريعات الدولية بدأت تتحرك، ففي بريطانيا قادت الطريق
بـ"مدونة التصميم المناسب للعمر" ثم "قانون الأمان على الإنترنت"، ما أجبر المنصات على عشرات التعديلات الجذرية، وتبعها الاتحاد الأوروبي بـ"قانون الخدمات الرقمية" الذي حدّ من الإعلانات الموجهة للأطفال، وفي الولايات المتحدة، يفرض قانون حماية خصوصية الأطفال على الإنترنت (COPPA) موافقة الأهل قبل جمع أي بيانات تخصّ الأطفال دون 13 عاماً.
هذه التشريعات لم تعد رفاهية، بل ضرورة لحماية جيل يرى العالم عبر الشاشة.
الخطر يأتي من طريقة الاستخدام
تتفق طوقان مع الصفدي على أن الحل لا يقوم على منع التكنولوجيا بالكامل، بل على توجيه استخدامها، ويؤكدان أن الخطر لا يأتي من التقنية بحد ذاتها، بل من طريقة استخدامها ومن الإيقاع اللامحدود الذي تفرضه الخوارزميات.
وفي النهاية، يبقى أن أي خوارزمية، مهما تطورت، لن تعوّض دور الأهل، الحوار الصادق، التوجيه، تحديد أوقات للمشاهدة، تشجيع أنشطة تغذي خيال الطفل وتواصله الحقيقي، والمشاركة في المشاهدة هي أعمدة الحماية الحقيقية، التكنولوجيا قد تضع الإطار.
لكن الأسرة هي من يمنح المحتوى والمعنى، وحماية الطفل لا تبدأ عند ضبط الجهاز، بل عند بناء وعي مشترك حول كيفية استخدام هذا العالم الرقمي بوعي وحكمة.