هكذا تكلّم الروابدة| د. محمد أبو رمان
"الدستور"
يأتي حديث رئيس الوزراء الأسبق، عبد الرؤوف الروابدة، أول من أمس، في منتدى الحموري للتنمية الثقافية، على درجة عالية من الأهمية والقيمة السياسية والفكرية، على صعيد بناء السردية الوطنية الأردنية في ظل الظروف الجيو سياسية المحيطة والخطيرة التي تعصف بكل ما حولنا في المنطقة.
الروابدة وإن كان قد تجنّب برغم إلحاح الجمهور الواسع والعريض، الذي أمّ المنتدى للاستماع إليه، أن يتحدث عن الأوضاع الراهنة، وكان يتعمّد التركيز على مفاهيم وقيم معينة، ليس عبثاً، بل لأهداف واضحة في ذهنه، عندما أعاد بناء الحكاية- السردية الكبرى في ثلاثة أمور رئيسية، وقد ربطها جميعاً ببعضها؛ الدولة؛ المنشأ والرسالة والدور، إذ عاد بالحضور إلى المراحل التاريخية السابقة، وحتى التاريخ الإسلامي، ثم إلى المنعرج التاريخي الكبير في تاريخ المنطقة، مع الثورة العربية الكبرى ورسالتها القومية- التحررية، وتأسيس الدولة، وعبقرية الأمير عبدالله المؤسس في إدراك وقراءة السياقات الدولية وموازين القوى، ثم لاحقاً نكبة فلسطين وما حدث فيها، وتطور الحياة السياسية الأردنية خلال العقود السابقة، متوقفاً عند حدود الخمسينيات من القرن الماضي!.
قد يقول البعض، ممن يقرأ هذه السطور، إنّ حديث الروابدة مكرر، ومعروف ويدرّس في الكتب في المدارس والجامعات! لكن ذلك للآسف ليس صحيحاً، وغير دقيق، فما كان الروابدة، السياسي المثقف والمحنّك، يسعى إليه هو أولاً بناء مفاهيم صحيحة عن شخصية الأردن؛ دولة ومجتمعاً ونظاماً ورسالة، وهي للأسف مفاهيم ملتبسة في أذهان كثير من أبناء البلد، حتى النخب السياسية، من خلال ربط النشأة والرسالة بالدور القومي التاريخي للدولة، الذي لم يكن فقط في السياسة الخارجية لها، بل ارتباطها بالحكم والرسالة والإرث الهاشمي من جهة، والثورة العربية الكبرى من جهةٍ ثانية، والقضية الفلسطينية من جهةٍ ثالثة، وأيضاً على صعيد البنية السياسية الداخلية للدولة، التي جعلت من قيم العروبة والوسطية والتسامح والواقعية السياسية أساساً ومرتكزاً في بناء هوية الدولة وسياساتها، وهي قيم لم تتغير وتتزحزح عن مكانها خلال تاريخ الدولة بأسره!.
وقد يقول البعض أيضاً أنّ ثمّة خطابا جديدا يقوم على المظلومية الأردنية صار مكرراً وممجوجاً في الإعلام وأحاديث متداولة، وربما يسثمرها بعض المتعصبين لتقديم هوية وطنية أردنية عصابية ومتقوقعة؛ وهذا صحيح جزئياً، لكن ذلك لا ينفي أنّ هنالك مشكلة حقيقية في بناء السردية التاريخية والسياسية الأردنية، وفي تبني هذه السردية من قبل النخب المثقفة والسياسية، وهنالك فرق كبير بين التأريخ، بمعنى التوثيق والتسجيل، وبين فلسفة التاريخ وروايته، وهو ما نفتقر إليه – أردنيّاً- ويتطلب جهوداً مؤسسية مستقلة تنتقل من مرحلة التأريخ إلى السردية.
لدينا مؤرخون كبار أمثال محمد عدنان البخيت وعلي محافظة وهند أبو الشعر وأجيال جديدة من الشباب المميزين، يعملون بصورة فردية وأكاديمية وبحثية على هذه الجوانب في الجامعات والمراكز، لكن المطلوب أن يتحول هذا الجهد من المجال الفردي إلى الجماعي، وتتولّى وزارة الثقافة جزءاً من هذا العمل المهم، وأصدرت العديد من الكتب، لكن هنالك خطوات مطلوبة إلى الأمام مختلفة تتطلب قدراً أكبر من الحوار والنقاش في السردية وفي أبعادها، بين هذه النخب ومعهم نخب سياسية، ثم تقديم تصور لا يقوم على منطق الدفاع الأعمى أو السردية المزورة، بل التحلي بقدر من الشجاعة والجرأة والموضوعية والحرية الأكاديمية، والتكاملية بين علماء السياسة والتاريخ والاقتصاد والاجتماع..
تطرق الروابدة إلى قضية مهمة ورئيسية تتمثّل بالهوية الوطنية والوحدة الوطنية الأردنية، وأكّد على أنّ المطلوب بناء معادلة واضحة متماسكة تربط الهوية الوطنية الأردنية، وترسيخا، بالمفاهيم القومية والعروبية وبالقضية الفلسطينية، لكن على أسس صحيحة دقيقة، بحيث تكون المواطنة والهوية والوطنية مفاهيم متكاملة ومترابطة لا متناقضة ومفككة!.
"الدستور"