عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Sep-2020

الحارث… فكرة خرافية لفيلم غامض يوحي بالدجل السينمائي

 القدس العربي-كمال القاضي

مئات الأفلام المصرية تناولت تأثيرات السحر والشعوذة وأفردت مساحات واسعة للخرافة، جاء بعضها مُقنعاً، رغم غرابة الأحداث وخروجها عن حدود المنطق، لكن أن تبدأ الحكاية بكذبة في سياج فلسفي، وتنتهي بجريمة قتل فهذا ما لم نره في النوعيات المثيرة المنتمية لهذا الصنف من الأفلام، التي لا تعدو أكثر من مجرد دجل سينمائي يُمارس على السُذج من المشاهدين، الذين تبهرهم حالات الغموض والإسراف غير المدروس في الإثارة، وأجواء التعتيم البادية في الصورة والمضمون على حد سواء، بغير حجة أو مبرر، ذلك أن لتلك النوعية من الأفلام قوانينها وحرفيتها وتقاليدها الخاصة.
«الحارث» فيلم يمثل محاولة فاشلة لاستخدم عنصر الإيهام بوجود قوة خفية بإمكانها التحكم في مصائر البشر وأقدارهم، بافتراض علاقة وهمية بين المكان وما يُفترض وجودة من طاقات سلبية، من شأنها تحويل الإرادة الكامنة في الفرد والمجموع إلى حالات عدمية تستهدف الشخصيات وحياتهم ومستقبلهم، وتجعل من الموت نهاية حتمية لكل من يتحدى هذا الهاجس، ولا يعترف بالقوة الخارقة غير المرئية، التي يروج لها الدجالون والمشعوذون والعائشون من ريع الخرافة، ومكتسباتها المادية الكبيرة.
تبدأ الأحداث بحالة ولادة لامرأة في سن الشباب وسط عاصفة من الاحتجاج والرفض، من جانب البطل عمرو عبد الجليل، حيث يخال للمشاهد أن المرأة قد حملت سفاحاً، وأن ما نراه من أوجه الرفض للمولود ليس إلا محاولة لإعلان التبرئة من العار الذي سيلحق بالقبيلة التي تعيش في أزمنة الجهل الغابرة، في واحة سيوه إحدى الواحات الشهيرة في مصر، بيد أن ما تُنبئ به الأحداث بعد دقائق معدودة، يوحي بوجود اعتقاد غريب ينطوي على وجود حدس لدى أهل الواحة بأن المولود ما هو إلا فأل شؤم ينذر بسوء العاقبة، فهو شيطان صغير وُلد ليُفرق الجمع، ويحلل القتل وسفك الدماء، ويزرع الفتنة بين الأشقاء والأصدقاء والأهل والجيران. أما لماذا وكيف ومتى؟ فهذا ما لم يتم الإفصاح عنه في سياق التراجيديا المُعتمة المُفزعة، التي صاغها السيناريست محمد إسماعيل أمين، وأخرجها محمد نادر بوصفها حدوتة مستوحاة من التراث القبلي القديم، كتبها المؤلف محمد عبد الخالق، وجرت تفاصيلها في العصور المنصرمة بين شخصيات فُطرت على الاعتقاد في الخرافة، وأعمال السحر، وتداولت في ما بينها أساليب الثأر والانتقام.
ولكي تبدو هذه الحكاية غريبة ومثيرة، أدخل الكاتب أبعاداً فلسفية وشخصيات وأحداثا مُعاصرة على الحدوتة التراثية القديمة، فجعل البطولة لصحافي مستنير لا يؤمن بتلك الأفكار، لتصبح الثقافة في مواجهة الخرافة كضدين لا يلتقيان، وبالفعل بات الصحافي الذي أدى دورة أحمد الفيشاوي بمهارة مناهضاً للفكرة الغيبية العبثية الغريبة، إلا أن الأمر طاله هو شخصياً، نتيجة وقوع حادث لابنه الوحيد الذي يعاني من تعثر في النطق، ويشعر باغتراب بين أبويه لوجود مشاحنات دائمة بينهما، وعلى أثر ذلك يموت الطفل في حادث غامض، إثر سقوطه من شرفة البيت، فتُصاب الأم بحالة هستيرية سرعان ما تتحول إلى هلاوس سمعية وبصرية.
وهنا ينتقل بنا المخرج محمد نادر إلى مستوى درامي آخر نطلع فيه بمتابعة الحالة المرضية للأم ياسمين رئيس، التي دخلت في أطوار نفسية عديدة فعادت إلى تعاطي المخدرات بعد مثولها للشفاء، حسب الإشارة العابرة للسيناريو غير المُحكم، فضلاً عن وقوعها في براثن السحر الأسود، وإتيانها بتصرفات خارجة عن طابعها المحافظ، واعتيادها زيارة أحد الدجالين مراراً وتكراراً، بناءً على نصيحة صديقتها التي أقنعتها بوجود جن يسيطر عليها، ويُلحق بها الأذى، ويعكر صفو حياتها، وهو ما أدخل زوجها الصحافي الدائرة ذاتها، فأصبح، لا يملك من الأمر شيئاً غير التسليم بوجود قوة خفيه تحيط بزوجته، وتنال من صحتها وراحتها واستقرارها، وعليه يحدث التحول النسبي في موقفه إلى حين.
ولأن الصراعات النفسية بين الشخصيات الدرامية اتسعت بغير منطق، أو حسابات فقد جرت المعالجة في غياب المنطق أيضاً، إذ افتقدت الأحداث لعناصر التشويق والجذب، وضاعت هوية العمل كله وسط الخزعبلات والتسطيح، وتلفيق المواقف والمشاهد، وبغير مناسبة يقودنا السيناريست مره أخرى إلى منبت الخرافة في واحة سيوه، عودة إلى أصل الحكاية المُلفقة، فتكون المفاجأة غير السارة في انتظار المُتلقي، حيث يتبين أن المتورط في جُل الظواهر الخرافية هو الطبيب النفسي صديق البطل أحمد الفيشاوي، وغريمة في الوقت نفسه، فهو من أوعز للزوجة ياسمين رئيس بوجود المس الشيطاني وتأثيراته السلبية تجاهها، ليسهل لنفسه مهمة السيطرة عليها كونه متيماً بها منذ الصغر.
كذلك إفراطه في تكدير وتعذيب صديقة ومحاولة قتله للتخلص منه والانفراد بزوجته، الحبيبة الأولى له، ولأن الأحداث يستحيل تمريرها كحالات واقعية، لجأ صُناع الفيلم إلى حيله غير ذكية للإيحاء بأن الطبيب ما هو إلا رمز لصورة إبليس، الذي جاء منذ بداية الخليقة ليفرق بين المرء وزوجة، ومن ثم يحدث الربط التلقائي بين إيحاءات المشهد الأول من الفيلم بافتراض أن المولود فأل شؤم، لأنه نذير سوء لشيطان يحرض على القتل وسفك الدماء، والتفرقة بين الأشقاء والأصدقاء، كمعادل موضوعي للمواجهة الأزلية بين الإنسان وعدوه اللدود، وهنا يكون القوس قد أغلق على المعنى المستهدف من الأسطورة القديمة في الموروث الشعبي، الآتية تفاصيلها من ثقافة المجتمع الصحراوي البدائي، الذي يتزعمه باسم سمره صاحب الدور الأقصر والأعمق، خاصة أن الحكاية انتهت بجريمة قتل ارتكبتها البطلة ياسمين رئيس في معرض دفاعها عن الزوج، إذ طعنت الطبيب الشيطان بسن الحربة في صدره، فاردته قتيلاً لينجو الزوج ويعيش حياة أخرى سعيدة تظهر بعض ملامحها في مشهد النهاية كناية عن التخلص من شبح الفناء ومطاردات الجن والعفاريت، أو من يمثلهم من الإنس.
 
٭ كاتب مصري