ماذا كان بريمو ليفي ليقول؟.. تأملات في جرائم إسرائيل في غزة
الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
ماركو ريفيللي* - (وورلد كرنش) 28/8/2025
لا أستطيع أن أمنع نفسي من مقارنة سطور بريمو ليفي بالصور التي تجلبها شاشة التلفاز، كل مساء، إلى دفء بيتي. وأشعر بإحساس يائس بالضياع. وبالعار.
تورينو - أنتمي إلى جيل كانت فكرة "إبادة اليهود" بالنسبة له هي الأساس الذي بُني عليه أفقنا الأخلاقي كله: الشر المطلق الذي قُدّر له أن يشكّل إلى الأبد الحد الفاصل الذي لا يمكن تجاوزه بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني.
كما أنني أنتمي إلى عائلة كان حفظ ذكرى ذلك الرعب بالنسبة لها واجبًا، وجوهرًا لدين مدني كانت أولى وصاياه "لن يتكرر هذا أبدًا". وأتذكر القصص التي كان يحكيها أبي عن اليهود الذين تم إخفاؤهم تحت حماية مقاتلين من الأنصار في الوادي الذي كانت تعمل فيه فرقته، في شهادة دامغة على عدالة تلك المعركة.
وأتذكر الأوقات التي قضيتها بصحبة بريمو ليفي؛ الهدوء الذي كان يسبغه الحوار، وعذوبة تلك الساعات العابرة. كانت تلفها دائمًا غلالة من الحزن بسبب المعاناة التي عاشها، وبمزيج من الأمل في أن تكون تلك الذاكرة ذات فائدة ما، والخوف من أن يعود الوحش إلى الظهور. هذا هو السبب في أن مذبحة 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ضربتني بالقلق ذاته الذي يثيره الشعور بأن ثمة نبوءة مشؤومة قد تحققت.
يقين أخلاقي ممزق
ولكن، عندئذٍ جاءت ردة فعل إسرائيل الطويلة وغير المنتهية. ويجب أن أقول بصدق إن ما حدث في غزة منذ ذلك الحين -وما يحدث هناك الآن- هو بالنسبة لي أكثر من مجرد مأساة للشعب الفلسطيني الذي أشعر بألمه بدافع التعاطف الذي يتطلبه ويفرضه مجرد أن تكون "إنسانًا"، ببساطة.
كلا. إنه شيء أكثر عمقًا وجوهرية، وأكاد أقول أكثر شخصية بالنسبة لي: إنه كارثة وجودية، وتمزُّق لعالَمي الأخلاقي الخاص نفسه على يد الطرف نفسه الذي كان ذات يوم أساس هذا العالم. ولأن هذا هو ما يحدث، شاء المرء أم أبى، فإننا نُجبر على الاعتراف -في ذلك الركن من ذواتنا الذي نسميه الضمير- وبينما نشاهد هذا التقدم الوحشي الذي لا يلين لآلة الحرب الإسرائيلية، بوجود علامات شديدة الشبه بكل ما أقسمنا أن لا نسمح بحدوثه مجددًا أبدًا.
القتل الجماعي للمدنيين الأبرياء -النساء، الشيوخ، والأطفال- الذين ذنبهم الوحيد هو أنهم موجودون في ذلك المكان. تدمير كل البنى التحتية الأساسية للحياة (المستشفيات، إمدادات المياه والكهرباء، والمدارس وأماكن العبادة)، كل ما لا يمكن لمجتمع أن يتمكن من البقاء على قيد الحياة من دونه.
هذا ما تعنيه بالضبط عبارة "إبادة جماعية".
التجويع المتعمّد لسكان يُجبرون على التقاتل من أجل حفنة دقيق بثمن المغامرة بأرواحهم. ماذا يكون هذا إذا لم يكن محاولة لتجريد "الآخر" من إنسانيته؟ لتجريد البشر بشكل منهجي من إنسانيتهم حتى يمكن التخلص منهم بحرية؛ اختزالهم إلى حيوانات (كما وصف بعض الوزراء الإسرائيليين الفلسطينيين مرارًا) أو إلى أشياء يمكن تدميرها أو رميها والتخلص منها غب الطلب.
تأملْ ما إذا كان إنسانًا
ذاك الذي يعمل في الوحل
ذاك الذي لا يعرف السلام
ذاك الذي يقاتل من أجل كسرة خبز
والذي يموت بسبب "نعم" أو "لا"
لا يسعني إلا أن أقابل هذه السطور من بريمو ليفي بالصور التي يجلبها التلفاز، كل مساء، إلى دفء بيتي. ويغمرني إحساس يائس بالضياع. وبالعار.
ثقل التواطؤ
لا أعرف ما كان يمكن لهذا الشر كله، هذه الكراهية وهذا الحقد الذي تراكم في الأشهر الأخيرة أن يمتصه الزمن. ولا أعرف كم من الوقت يجب أن يمضي قبل أن يتمكن الجلادون والضحايا -إذا كانوا ليتمكنوا من ذلك في أي وقت- من رؤية بعضهم بعضًا ككائنات بشرية مرة أخرى.
إنّ ما هو مؤكد هو أن الألم الذي ألحقه قادة إسرائيل بالشعب الفلسطيني، وكذلك العار الذي جلبوه لشعبهم نفسه، وهدر الإرث الأخلاقي الذي تراكم من خلال المعاناة الماضية، يبدو في هذه اللحظة ببساطة شيئًا يستحيل التكفير عنه.
وماذا عنا نحن؟ نحن، العاجزون. نحن، المتفرجون المتكاسلون على جريمة لم تُواجه سوى بالقليل الكلمات المهذبة. ألن يظل هذا الصمت المتواطئ وصمة عار على جبين الغرب بأسره؟
لقد نقش بريمو ليفي (نعم، هو مرة أخرى) قصيدة على حجر وأهداها لصديقيه، ماريو ريغوني سترن وأبي، اللذين، كما كتب، تحمّلا "نظرة ميدوزا من دون أن يسمحا لها بأن تحجّرهما".
وختم: "لم يسمحا لنفسيهما بأن تتحجرا بتساقط الأيام الثلجي البطيء". هل يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن أنفسنا، جميعًا، اليوم؟
*ماركو ريفيللي Marco Revelli: عالم سياسة وناشط سياسي وكاتب مقالات وصحفي إيطالي، يكتب لصحف عدة، من بينها "لا ستامبا".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: What Would Primo Levi Say? Reflections On Israel’s Crimes in Gaza
هامش المترجم:
**بريمو ليفي Primo Levi (1919–1987): كاتب وكيميائي يهودي إيطالي، وأحد أبرز الناجين من معسكر أوشفيتز النازي. عُرف بكتاباته التي وثّقت تجربة الهولوكوست، وأشهرها كتابه "إذا كان هذا إنسانًا" If This Is a Man، الذي يعد شهادة إنسانية وفكرية على أهوال الإبادة النازية. جمع في أعماله بين السرد الأدبي والتأمل الفلسفي في الشر والذاكرة والإنسانية، ويُعتبر من أهم الأصوات التي حفظت ذاكرة المحرقة في الأدب الحديث.