قواعد تغيير اللعبة السياسية بالشرق الأوسط، والنظام العالمي الجديد*بسام محمد ابو رمان
الراي
كنت قد ختمت مقالتي السابقة بعنوان "حقيقة الحرب الإسرائيلية الإيرانية وتغيير قواعد اللعبة السياسية"، المنشورة في جريدة الرأي بتاريخ البارحة، بسؤال عن سبب تغير أدبيات اللعبة السياسية فيما بين إسرائيل/الغرب وإيران؛ بالإضافة الى العوامل التي أحالت الحرب الاستراتيجية السياسية بينهما الى حرب عسكرية. وهل تخلى الغرب عن دور "البعبع" الإيراني الذي لطالما ساهم وجوده بتبرير القواعد العسكرية الغربية وغيرها من المكاسب الاستراتيجية في الشرق الأوسط والخليج! بل هل تخلى أصلاً عن سياسة ازدواجية المعايير التي لطالما لجأ لها لتبرير أطماعه وتجاوزاته على الشرعية الدولية أمام شعوبه وناخبيه؟
الإجابة ببساطة تأتي بالإيجاب. فبينما يراوح الأوروبيون مكانهم، يتمثل التفسير ببساطة بتغير قواعد اللعبة السياسية مع تغير القيادة بالولايات المتحدة الأمريكية تحت إمرة ترامب. ويظهر الفرق بين ترامب ومن سبقه من الرؤساء الأمريكيين، بل وكافة رؤساء دول الغرب المهيمن عامة، أن كافة اولئك الرؤساء أخضعوا أنفسهم للرقابة الداخلية أمام ناخبيهم؛ كما وقيدوا أنفسهم بالقانون والشرعية الدولية، ولو ظاهرياً. بينما يجاهر ترامب بالمقابل، بتمرده على الشرعية الدولية، بل والداخلية أيضا، مستندا الى قاعدة المصلحة البحتة والقوة اللازمة لفرضها! وبصورة أدق، فإن القاعدة اليمينية الشعبية لترامب، والمبنية في غالبيتها على أساس شخصي لا منهاجي، تسمح له- الى حد كبير- بممارسة دور العراب للعالم أجمع. ومن أبرز أمثلة ما سبق:استعراضه لنية الترشح لولاية رئاسية ثالثة خلافا لقيود الدستور الأمريكي. بل وانقلابه على كل من يعارضه بما فيه ذلك فصل قضاة المحاكم العليا واستهدافه لخصومه السياسيين علانية، ناهيك عن سياسة تكميم أفواه الشباب وطلاب الجامعات وقرارات سحب الجنسية والترحيل وغيرها مما يخالف صريح التشريعات الأمريكية الداخلية! بينما لم تكن سياسته الخارجية أقل جرأة مثل مخاطبته لشعوب كندا وغرينلاند لضمهم للولايات المتحدة الأمريكية مع تهميش صريح لحكوماتهم، او نيته بضم قناة بنما او ترحيل شعب غزة ومخاطبة الشارع الإسرائيلي علانية بضرورة وقف محاكمة نتنياهو بتهم الفساد خلافا لقرارات المحكمة العليا الإسرائيلية، وتقنين سيطرة روسيا على بعض مقاطعات أوكرانيا بمعزل عن القانون الدولي وغيرها!
ويجدر التذكير بأن النظام العالمي الحالي يستند أساساً الى الشرعية الدولية المنبثقة عن معاهدة ميثاق الأمم المتحدة 1945- وذلك بعد فشل عصبة الأمم المتحدة بموجب اتفاقية فيرساي 1919- عن تحقيق غاياتها. وقد حرصت الدبلوماسية الدولية عبر العصور بالتأكيد على الشرعية الدولية والثوابت القانونية التي خطتها الاتفاقيات الدولية والعرف الدولي لضمان الحفاظ على هذا النظام واستدامة الأمن والسلم الدوليين. إلا أن المُلاحظ في كل من الضربات الاستباقية [Anticipatory Attack] الإسرائيلية والأمريكية على المفاعلات والعلماء النوويين والقيادات العسكرية الإيرانية في حزيران 2025بأنها تمثل انقلابا هو الأخطر على الاحتكام الى الشرعية الدولية منذ نشأتها. ذلك أنه لم يكتفِ بمخالفة حالة الدفاع عن النفس،كمخرج قانوني وحيد لاستخدام القوة العسكرية بين الدول، بل تجاوزه الى تبرير الضربات العسكرية الاستباقية بمزاعم درء تهديدات مستقبلية محتملة من دولة غير صديقة! الأمر الذي يعتبر كفيلاً بانهيار منظومة الشرعية الدولية بالكامل لو درجت القوى العظمى على تقليده بالتبعية!
إذن، جاءت حرب حزيران 2025 بين إسرائيل وإيران، بمباركة أمريكية صريحة، غير آبهة بالشرعية الدولية أو القانون الدولي، لإعلام إيران صراحة باستغناء المصالح الأمريكية/الغربية عن الدور الإيراني بالمنطقة، بينما ناورت إيران بالمقابل، لضمان الحفاظ على أكبر قدر ممكن من المكتسبات التي حققتها طيلة الفترة السابقة. وأعتقد أن تؤول الأمور بالمحصلة الى تنازل إيران عن دعم النفوذ العسكري لميليشياتها في لبنان والعراق واليمن على أن تحتفظ به كنفوذ سياسي يعبر عن نفسه رسميا ضمن صفوف الحكومة والمجالس النيابية والشعبية في كل من تلك الدول. على أن يتم تجميد البرنامج النووي ما لم تُرغم إيران أو تتمكن بمساعدة حلفائها في روسيا والصين من متابعته ولو سراً. وبالتالي، تحافظ إيران على الدفاع على مصالحها الجيوسياسية ونفوذها بالمنطقة وفقا لقواعد السياسة البحتة لا نصرة للقضية الفلسطينية؛ فهي لم تكن يوما حليفا حقيقيا لفلسطين كما لم تكن يوما عدوا حقيقياً للغرب- إنما هي المصالح يا سادة!
في ضوء ما سبق، بات من الواضح أن العالم بشكل عام، والشرق الأوسط على وجه التحديد، قد بدأ بالفعل بخوض غمار مرحلة مبهمة تُمهدُ لخلق نظام عالمي جديد يتجنب المجاملات السياسية،ولا يحتكم إلا الى المصالح المدعمة بالقوة اللازمة لإقرارها. وكأن لسان حال الواقع يقر علانية بأنها حقبة الغلبة للأقوى!بينما نجد أن الغلبة الإسرائيلية في حربها على إيران لم تكن قاصرة على ما حققته من انتصارات عسكرية مباشرة، بل تجاوزته الى التكشير عن أنيابها،وبلا حياء أمام العالم أجمع، سعيا للوصل الى حلم أرض الميعاد "إسرائيل الكبرى"؛قاصرة الشرعية الدولية التي تحتكم إليها بتلك التي تقرها القيادة الأمريكية فحسب.
أما عن أبرز المكتسبات غير المباشرة لما بعد مرحلة الحرب/المصالحة مع إيران، فأخشى أن التفوق العسكري غير المقرون سيسمح لإسرائيل بالاستقواء على دول الجوار واستباحة السماء العربي بحجة الضربات الاستباقية للدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب. كما أنها ستبدأ ببلورة دورها كسفير حصري للغرب بين دول الشرق الأوسط والخليج- بينما يتفرغ الغرب لمواجهة التحديات الصينية الروسية. وأخيراً، فإن القضاء على الدور الإيراني الموصوف أعلاه، سواء بالنصر المطلق أو بالمصالحة، سيسمح لإسرائيل بإعادة سعيها لكسب تعاطف الرأي العام الغربي وإعادة هيكلة مظلوميتها باستبدال سردية البعبع الشيعي بالبعبع السني من الآن فصاعدا [والمتمثل بمن تسمهمِ "بالسلفي الجهادي الإرهابي السني" في سوريا، وداعش بالعراق والإخوان بالأردن ومصر] والبدء باختلاق الأحداث اللازمة لدعمها!
الخلاصة وبإيجاز، خاصة وإن عجزت الشرعية الدولية عن إثبات قدرتها على تجاوز تحديات المرحلة، يتوجب على كافة دول الشرق الأوسط، بل والعالم العربي والإسلامي ككل،العمل على توحيد الصف الداخلي بشكل منهجي وموضوعي.كما ويتوجب عليهم تمكين دفاعاتهم العسكرية وبناء التحالفات المتينة مع دول العالم الحر. وأخيرا، ضرورة العمل على استقطاب الرأي العام العالمي واستغلال وسائل التواصل المتاحة وتجيير جيش مدرب من المختصين الإعلاميين لنشر الحقائق والدفاع عنها في مواجهة ما هو قادم- وبغير ذلك "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".