الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نيجرا كرافيتش* - (مؤسسة الدراسات الفلسطينية) 20/8/2024
أستيقظُ من نصف نوم. جفناي ثقيلان. ولا يجلب فتح النافذة سوى هواء خانق يستقر حول زوايا سرير عتيق، يصرخ، ويَصر ويهمس، ويحتل الفراغ بين الجدار وورق حائط نصف متقشر، محركًا باب غرفة النوم بلطف ليراوح بين الفتح والإغلاق، ويُنهض الشعيرات الدقيقة على رأسي بشحنة كهربية. ثمة امرأة تؤنب طفلين صغيرين. وتنعطف حافلة بحدة فيتردد صدى الزعيق الكئيب المنتحب. إنه الأول من تموز (يوليو) في سراييفو.
في غضون 11 يومًا بالضبط، سيتم دفن رفات 14 ضحية من ضحايا الإبادة في سربرينيتسا، تم العثور عليها بعد ثلاثة عقود. خلال الصراع المسلح بين العامين 1992 و1995 في البوسنة والهرسك، قُتل أكثر من 8.000 رجل وفتى من المسلمين البوسنيين (البوشناق) في منطقة سربرينيتسا الكبرى، التي كانت تُصنّف في ذلك الحين كمنطقة آمنة تحميها الأمم المتحدة.
في 11 تموز (يوليو) 2024، اجتمعت العائلات تحت شمس متشظية لإحياء الذكرى. طغت أصداء "جحيم سربرينيتسا" على الغابات الخضراء المحيطة بالنصب التذكاري. وعاد الصمت ليغلف مرة أخرى الحقل المزروع بشواهد القبور البيضاء.
كانت بعض الجثث قد نُقلت من المقابر الجماعية الابتدائية؛ نُبشت وأعيد دفنها في مواقع ثانوية بقرار من جيش جمهورية صربسكا والسكان المدنيين المتعاونين معه. هذه الممارسات جعلت من التعرف على هوية الجثث عملية تستغرق عقودًا. ومع اقترابنا من الذكرى الثلاثين لهذه الأحداث، تقل أحداث دفن الجثث مع كل عام. وما تزال العديد من الجثث مجهولة الهوية، بعد أن اختفى أقرب أقرباء أصحابها أيضًا.
هذا العام، حملت الذكرى عبئًا آخر ثقيلًا. بينما أكتب هذه السطور، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منطقة "آمنة" أخرى، هذه المرة في مخيم للاجئين بالقرب من خان يونس في غزة. من الصعب تجاهل التشابه بين الفظائع التي ارتُكبت في البوسنة وبين الإبادة الحالية في حق الشعب والأرض الفلسطينية. تركت هذه الأحداث عائلتي وأصدقائي ومجتمعي في حالة حداد لا تنتهي. أصبحت لمحات الفرح تبدو هاربة وغير واقعية. أصبحت الأفراح اليومية إزعاجات، والأضواء أكثر سطوعًا مما يجب. الموسيقا تبدو صاخبة تصم الآذان. وقطرات المطر على الجلد الساخن تُؤلم. المقاعد قاسية وغير مريحة. الرياح متفحمة من الدخان. مقاسات الأحذية ضيقة جداً. الذكريات مشوشة. القلوب منكسرة. الذنب محسوس. الأحلام سخيفة. والعقل والجسد في صراع.
ومع ذلك، بشكل فظ، وربما بلا تحفظات، يخبو الأمل بينما يقتحم الغضب أجسادنا. الأعصاب تشتعل. أجهزة التلفاز تصبح أشياء يجب أن نلعنها ونتفل عليها، حيث يتجاهل القادة الدوليون الأسئلة حول الأطفال المقطوعة رؤوسهم، والجثث المتفحمة، والأنقاض الدامية، والأطراف المتناثرة، والأرواح والمنازل والأحياء المدمرة. الأذرع والأقدام ترفع تلقائياً، ويتحدث الرجال المسنون بجلدهم المجعد عن خطوط إمداد المياه والخبز خلال حصار سراييفو؛ عن الأزقة التي يعتقلها القناصة، والمنازل التي كانت، والجيران الذين تحولوا إلى حجر، وأشجار التفاح الملغمة، وألعاب الأطفال المفخخة، ونوع الجوع الذي يجعل أصابع قدميك ترتعش؛ عن المساعدات الغذائية الفاسدة، في الغالب علب لحوم بقر، وأحيانًا لحم خنزير، وأحيانًا لحم خيل، طعام تعف عن لمسه الكلاب. يمسحون جباههم، والسجائر في أيديهم بينما يشاهدون الفلسطينيين يركضون خلف حزم المساعدات التي تُسقط في البحر.
في هذا العام، في ذكرى سربرينيتسا، رفعت العائلات أعلام فلسطين والبوسنة معًا. وتحدث الصحفي معتز عزايزة عن التواريخ المتوازية والعدالة التي ستأتي. ربما بعد 30 عامًا، سيعلنون بورع "لن يتكرر هذا أبدًا"، وسيتعاملون بحذر مع ما يمكن تعريفه بأنه إبادة جماعية. ربما بعد 30 عامًا، سيجدون الولاية القانونية المناسبة، بلا ساعة إضافية أو ضحية واحدة إضافية، ويجدون اسمًا لهذه الجريمة. سوف تُصدر السفارات بيانات، وسيحضر الصحفيون جلسات المحاكم. ستبكي الأمهات، وسننشئ مكتبات رقمية تحتقظ بوجوه الشهداء، وسننشد الأغاني ونصنع الأفلام ونكتب الشعر.
مع ذلك، ربما بعد 30 عامًا، لن تكون تواريخنا متوازية فحسب، بل إنها ستتلاقى، كما يصب نهر نيريتفا البوسني في البحر الأدرياتيكي، بهدوء وفي لحظة واحدة.
*نيجرا كرافيتش Nejra Kravić: طالبة ماجستير في "الحرم الجامعي العالمي لحقوق الإنسان"، وكاتبة مقيمة في البوسنة والهرسك.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: From Bosnia to Palestine, Our Histories Will Converge